د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت سابقا عن دور الجامعة المهم في التنمية الاقتصادية وضرورة قيامها بدورها في التكامل مع أداء التعليم العام المتراجع بسد النقص من خلال إجراءات تتخذها الجامعة يدفعها إليها شعورها بدورها الوطني في خدمة أجيال المملكة بما يرتقي بهم علميا وثقافيا واجتماعيا، وواقع الأمر أن الجامعات اكتفت بالهجوم كوسيلة للدفاع بينما هي التي يعول عليها أن تبدع في الحلول وهي الحلقة الأقوى في التغيير لأن حجم وانتشار المدارس لا يقارن بحجم وانحصار نطاق الجامعة مما يجعل مهمتها أيسر بكثير، ويجب أن نتذكر أن اقتصادنا متعطش للكثير من الطاقات الشابة «المتفوقة» لا مجرد خريجين يسيرون العمل فهذا النموذج كان صالحا في الثلاثين أو الأربعين سنة التي تلت إنشاء أول جامعة، بينما اليوم تغيرت المعادلة وأصبحت المطالب مختلفة فلزم جامعاتنا أن تستيقظ وتعي دورها نحو المخرجات «المتفوقة»، وإن كان لدى جامعاتنا قصور فهو يتبدى في جوانب أساسية كلها ذات أهمية وليست صعبة المنال: فأولا لم يتم تطوير المناهج بما يتناسب مع كل مرحلة بل ظلت المناهج مستوردة في بعضها أو تقليدية في بعضها الآخر، ولا نجد في جامعاتنا مناهج مصممة لتخدم بيئتنا المحلية (سؤال: هل يوجد أقسام أو مراكز مختصة بالمناهج الجامعية في جامعاتنا؟ ولا أتحدث عن اللجان). إنك عندما تكون بصدد بناء اقتصاد قوي يقوم على المعرفة ويمارس التنافسية في عالم لا يعترف إلا بالأقوى والأسرع في الفكر والابتكار والإبداع في حين أن مخرجات التعليم العام متواضعة فإنك بحاجة إلى مناهج مفصلة لهذا الواقع لا أن تكرر ما تفعله جامعات البيئات الأخرى، وهو أمر ليس باليسير، لكنه قابل للتنفيذ مع النوايا الجادة. وثانيا الاختبارات ظلت تراوح في مكانها دون تطوير أو تهذيب فلا يوجد تحليل لنتائج الاختبارات ولايوجد توظيف لأدوات تطوير الكتابة الاختبارية لدى الأساتذة كما لا يوجد مراكز متخصصة لهذا المجال في أية جامعة عدا مركز واحد سمعت عنه أنشيء في التسعينات أساسا لبناء اختبارات دخول الجامعة ولا أعلم الآن إن كان هذا المركز قد أنجز تقدما في تحسين اختبارات الأساتذة وهو بيت القصيد.
ثالثا: لم تهتم الجامعات بالتدريس وهذا بعد مهم، فكل أستاذ يمارس التدريس باجتهاده الشخصي دون أن يتلقى الأساتذة تدريبا منظما في هذا الشأن، ومع وجود اجتهادات تدريبية بمبادرات هنا وهناك لكنها لا تلبي المطلب الحقيقي في تمكين التدريس المتميز لطلابنا الجامعيين وهو أقل ما يقدم لهم في ظل تراجع مستوى التعليم العام الذي قدموا منه، كما أنه مطلب أساسي للجامعة التي تستهدف خريجين «متفوقين» علميا إن اتفقنا على أهمية هذا المطلب لاقتصادنا كما قدمت، لذلك ينبغي أن تكون هذه ممارسة منظمة تطبق على كل أستاذ إذا كنا نريد اللحاق السريع بالتقدم الحضاري، والمنطق المباشر يقول إذا كنا نريد أكبر عدد ممكن من «المتفوقين» فيجب أن يكون لدينا أكبر عدد ممكن من الأساتذة المتمكنين من جودة التدريس الجامعي، وأنوه أننا يجب أن نبذل بسخاء لهذا الهدف، وأؤكد على هذه النقطة، لأن عددا مهما من جامعاتنا المرموقة اتجهت مؤخرا إلى توظيف أساتذة من دول ذات اقتصاد متواضع لتتمكن من الصرف بقدر «إمكانياتها» وهذه مشكلة المشاكل وأم المشاكل، فما لم يكن هذا البند هو الأكثر سخاء فلا نتوقع أننا سنحقق هدف التمكين العلمي والتفوق الجامعي لطلابنا، ومن جهة أخرى وعندما نتحدث في سياق جودة التدريس عن الأستاذ الجامعي الوطني فيجب أن نفرق بين الأستاذ المتمكن من التدريس وغير المتمكن فيكون للأخير مكانه في مراكز ومعامل الأبحاث دون الإلتزام بالتدريس، وهذا موجود في جامعات العالم (كمثال في بريطانيا يسمى Reader) وحيث إن لائحة ترقيات الأساتذة الجامعيين تقوم على وجوب المزاوجة بين النصاب التدريسي ونصاب البحث العلمي، وهذه معضلة هنا، فإن هذه اللائحة ينبغي أن تعدل فيكون هناك نظام ترقية خاص لكل مسار فإما أن يكون الأستاذ الجامعي في مسار البحث العلمي فقط (من لا يصلح للتدريس) فيحصل على نقاط الترقية من خلال إنجازاته في هذا المسار فقط وإما أن يكون في مسار التدريس (لمن لديه ملكة التدريس ومهاراته) وهذا يستمر في النظام الحالي والذي يتطلب منه العمل البحثي بجوار التدريس (فالبحث العلمي أساس في حياة الأستاذ الجامعي ونموه علميا). إن أخذنا بهذا المنهج غدا طيف من يدرسون طلابنا في الجامعة من المبدعين تدريسيا ونما التفوق الطلابي... نتيجة منطقية، وللحديث بقية.
** **
- مدير عام تعليم سابقا