د. محمد بن إبراهيم الملحم
هؤلاء هم شهداء البحر الميت من الطلبة الأبرياء والمعلمات في الأردن الشقيق والذين وافتهم المنية قبل أيام في رحلة مدرسية في يوم ماطر أطلق سيلاً عرمرماً نحوهم في مجرى الوادي الخطر الذي كانوا يسيرون فيه في رحلتهم «المغامراتية» كما فهمنا من سياق التصريحات، وقد كانت قوة السيل وسرعة جريانه مفاجئة بأسرع من رد فعلهم للهرب ومحاولة اللجوء إلى المرتفعات على جانبي الوادي، وقد نجح بعضهم في ذلك ولكن قدر الله وقع على أكثر من عشرين منهم ليحملهم السيل بما فيه من طين وحجارة وأشجار فيقذفهم في نهاية رحلته في البحر الميت. ولا شك أن قدر الله فوق كل شيء ولكن لنا وقفات مع هذا الحادث الذي آلم كل من تابعه وتحدثت عنه وسائل الإعلام العالمية ولنا فيه عبرة لطلابنا ثمرة اليوم وطموح المستقبل.
أولاً لا يمكننا تصوّر المدرسة دون رحلات مدرسية فلها قيمتها المهمة في تنشئة الطلاب وتعويدهم الاعتماد على الذات وتعرّفهم على واقع الحياة في صيغة تعلّم مختلفة عن الصف المدرسي، كما أننا لا نناقش تفاصيل موافقات وشؤون رسمية وما إلى ذلك مما يتداوله كثيرون اليوم في هذه القضية، فهذه مهما حبكت فإننا لا ننكر أن السيناريو البديل يمكن أن يكون وقوع الحادث مع وجود موافقة على هذه الرحلة، وتقييمنا هذا ينطلق من غياب «الوعي العام» فلا شك أن حس الأمان والسلامة في بيئتنا ومجتمعاتنا العربية منخفض جداً وهذا يشمل كل الفئات والطبقات تقريباً، بمن فيهم أولئك الذين سيوافقون على مثل هذه الرحلة، ولهذا تجد أن نوعية الحوادث المدرسية عندنا تكون من أمثال هذا الحادث الذي تتعجب من وقوعه بهذه السهولة، ما لم يكن الحس العام نحو السلامة مرتفعاً ومرهفاً فلا تتوقّع أن يرفض طلب موافقة على مثل هذه الرحلة مستقبلاً في أية دولة عربية، بما فيها بلدنا هنا، وكم نشاهد رحلات للطلبة يتكاسل فيها دور المعلم المشرف على الطلاب بشكل واضح، حيث يتيح لهم حرية أكثر من اللازم في الحركة والتنقّل وربما الوصول إلى أماكن تعرضهم للخطر، هذا القلب الميت هو ما يجلب الوجع والحسرة وربما البكاء والنحيب في بعض بيوت الطلاب الذين يفقدهم أهلهم لمشاركتهم رحلة مدرسية! وهذا القلب الميت هو من يحول الرحلة المدرسية من متعة إلى حزن ونكد، بل هذا القلب الميت ليس في الرحلات فقط وإنما تشاهده أيضاً في المدرسة سواء في ورش العمل والأنشطة الحركية، حيث يمارس بعض الطلاب تصرفات أو يستخدمون أدوات بطرق قد تضر بسلامتهم دونما تعليق من صاحب القلب الميت، كذلك تشاهده آخر الخارجين من المدرسة يتركها نحو بيته بمن فيها من الطلاب الذين لم يصل أهليهم بعد لاستلامهم، وتشاهده أيضاً يكلّف الطالب ببعض الأعمال التي قد تضر به، كما أنه هو من لا يفكر في تدريس تعليمات وأصول السلامة للطلاب وتكرارها عليهم من وقت لآخر في حصصه.
شهداء القلب الميت ليسوا فقط الطلاب أصحاب الجثث الذين نصلي عليهم وكلنا حزن على فقدهم في حادث مدرسي أو نزورهم في المستشفى لنواسيهم، بل هم أيضاً من الطلاب الذين يعيشون بيننا، وقد حطَّم إهمال المعلم التعليمي قدراتهم وطموحهم وأخمد ذكاءهم، وتحولوا إلى ببغاوات تردد ولا تفكر، وغرّهم ما أغدق عليهم بقلبه الميت من الدرجات فظنوا أنهم وصلوا غايتهم، وهم أيضاً من قتل قيمهم بسلوكه غير التربوي فنشأوا تحت يده وكلهم إيمان أن ذلك هو الأفضل لهم ولمجتمعهم، وهم أيضاً من تخرَّجوا من المدرسة لا يحملون منها خبرات حقيقية وذكريات معرفية ومهارات حياتية تكفل لهم العيش بسلام مع أنفسهم ومع الآخرين... كل هؤلاء هم شهداء قلب ميت يعيشون بيننا وبعضهم كبر ودخل معترك الحياة بجروحه الغائرة يتجولون في شوارع مدن وعينا كما يتجول «الزومبي»... فمن قتلهم غير القلب الميت؟!