يا لغباء بعض سائقي التاكسي...! قلتها وأنا أنزل مقطب الجبين من سيارة الأجرة التي أقلتني إلى أحد الأسواق الشعبية بالمدينة الكبيرة، فقد أراني نجوم الظهر قبل أن يفهم طلبي، فلا هو يعرف الإنجليزية ولا أنا أفهم لغته...والسيئ أنه أوصلني إلى سوق لا تنطبق عليه أوصاف الأسواق الشعبية، كضيق الممرات والحوانيت المتراصة وبسطات البضائع التقليدية والصناعات اليدوية والزحام الشديد وأصوات الباعة..و..
سرت الخطوات الأولى.... شارع طويل شبه مزدحم تصطف على جانبيه بعض المحلات التجارية المتنوعة، يسير أغلب البشر فيه باتجاه واحد.
خطوت بهدوء وفضول لاكتشاف عالم جديد.... بضع خطوات تخللتها وقفة أمام إحدى واجهات المحلات، حينها داخلني شعور حذر بأن هناك من يراقب تحركاتي وأن دائرة ضوء تحيطني..... لحظات وانقلب الحذر إلى ما يشبه التأكيد بأنه هناك خلفي..... لا أراه لكني أحس بنظراته كأشعة قادمة من اللامكان تلف جسدي... لحظات ولحظات والأشعة تتحول لشبكة تثقل حركتي.... حاولت الهرب من هذا الإحساس بالسير ببطء، فصادفت عربة فوقها موقد ذو مدخنة صغيرة يبيع صاحبها (الكستناء المشوية) فوقفتني رائحتها الأخاذة التي شعرت أنها لم تتجه إلى الأنف إنما تسللت عبر مسام الجلد وطرقت مباشرة جدار المعدة، نظرت للبائع فتحدثت عيوننا ومنها فهم أني مسرور لعمله لكني لا أريد شيئًا، سرت والشبكة غير المرئية تشد وثاقها أكثر، فحاولت تأكيد ذلك بالسير والالتفات فجأة لكن دون فائدة...حتى الرجل الذي سألني بلغة لا أعرفها لم ينزعني من قيد إحساسي، افتقدت التركيز فلم ألحظ أغلب المحلات التجارية، فقررت الانتقال إلى الجهة المقابلة إلا أن صوتًا نسائيًا رقيقًا همس بمسمعي مرحبًا..
وقفت والتفت نحو مصدر الصوت فاهترئت الشبكة وطارت في الهواء قطعًا صغيرة وأني طليق في الزحام.... وتحول الهمس إلى صوت جميل:
- هل أنت منهم..؟
أمامي فتاة عشرينية، عينان جميلتان، فاحمة الشعر، ليست بالطويلة ولا القصيرة... تبدى جمال الشرق في وجهها والغرب في ثيابها... أسعدتني المفاجأة... يا لروعة المدينة الكبيرة - أعذرني يا سائق التاكسي ففي أحكامي عجلة وتسرع - وتتحدث الضاد والأروع أنها بلهجة بلادي.... فدندن داخلي متنبئًا بالمجهول (يا لك من محظوظ).
فأجبتها بسؤال:
-وهل أنت منهم؟
-نعم.... ولا... وكل خفقة بقلبي تهتف حبًا لهم وبهم، إن أسرتي من هذه المدينة العريقة.... وأكملت:
-مرحبًا بك في بلدي.
تهت في عينيها ولسانها ذي اللهجة المحببة.... بعض المفاجآت الجميلة تخلق في التصرفات غباء وحيرة وتلعثم..... ماذا أقول، وطلبت نفسي هدنة للالتقاط الأنفاس فاقترحت عليها الجلوس في مقهى، ورأيت طلائع الاعتراض بعينيها
- لِمَ لا تأتي معي إلى المنزل... هو قريب من هنا.
اعترت تقاسيم وجهي مسحة تساؤلات لم تفتها قراءتها وأكملت تطمئنني:
-ستفرح بك أمي.
ارتبكت بعدما أوجست خيفة من جرأتها وثقتها بالغريب وأنا أردد:
-مقهى... المقهى أفضل.
-(أو كي) أعرف مكانًا جميلاً يبعد دقائق عدة.
سرت برفقتها مأسورًا، وصدح داخلي بمطلع أغنية طلال (عيني علينا... علينا) لحظتها فقدت الإحساس بالسوق والناس... والمحلات تسير في ناظري كشريط سينمائي سريع يصعب تبينه، وهي تحدثني عن تاريخ السوق وتجارته حتى وصلنا إلى مقهى صغير قديم لكنه نظيف، تتوسطه طاولة كبيرة والطاولات الأصغر متناثرة على مساحته بنظام وترتيب، فوق كل واحدة منها مزهرية صغيرة بها وردة بلاستيكية وطفاية سجائر، واختارت منها التي تطل على الشارع، فطلبت ماء وأنا شاي، وبحركة لا إرادية قربت طفاية السجائر...ابتسمت:
-مرحبًا بك في بلدنا.
-الله يحييك.
-متى وصلت؟
-البارحة.
-إذا لم تشاهد شيئًا.
-تكفيني إطلالتك.... كيف ميزتيني؟
ابتسمت فأشرق الشرق في وجهها وتماوج الغرب في جسمها، فقالت مازحة:
-ببساطة.... جذبتني رائحة بلادك.
- إذًا فيك جينات أفعى...!
أشرق وجهها مرة أخرى.
-وأيضًا رأيت فيك طيبة أهلك وتقاسيمهم.
يا لجمال الابتسامة وروعة الإجابة التي أرضت غروري... كدت أسبح في الغيوم إلا أني تذكرت جملتها (ستفرح بك أمي) التي أدخلتني بها إلى حظيرة الأبوة.
-ما أسمك...؟
- بروين....يا عمي... إن كان وقتك يسمح فاذهب معي... أنا أجيد طبخ الكبسة.
حين قالت (يا عمي) تأكدت أنها أغلقت باب الحظيرة عليَّ بإحكام.
ثم أكملت:
-تعلمتها وأصبحت هنا مطلبًا لكل من يزورنا من الأقارب والأصدقاء.
-من علمك إياها...؟
-أمي... التي أتقنتها هناك.
- اعذريني.....
وبتردد قلت يا ابنتي، ومعها شعرت أنني أطل برأسي من الحظيرة..... عفويتها وطريقة حديثها وضعتني طائعًا في جو من المحبة والألفة الأسرية فتخليت عن تحفظي وأحببت جرأتها التي أخافتني في البداية.
-غدًا عند العاشرة لدي اجتماع في إحدى الشركات ولا أدري متى ينتهي، لكنه قد يطول إلى فترة بعد الظهر...
-إذًا كبستك عندنا بعد ذلك... وأصر عليها.
- بروين.... يا ابنتي..... دعيني من الكبسة فقد أكلت منها ما يكفيني لمائة عام..... حدثيني عن حكايتك.
لاح فرح طفولي في عينيها فقالت:
-هذا المكان غير مناسب، وقد يطول الحديث.
-الوقت ليس بيدي، هو من يقود عصاي، فأكملي...
-أبي - رحمه الله - كان يعمل في أحد البنوك في المملكة، أمضى في عمله أكثر من عشرين عامًا، هناك مسقط رأسي....
رفعت عينيها إلى أعلى كمن يسبح في أحلام اليقظة، وواصلت...
-تنفست هواءها وتعفرت بترابها وارتويت من مائها... آه تجري محبتها بدمي... طفولة جميلة في مجتمع دافئ.
-إيه..
-لم تكن فكرة أمي فقد أصر والدي - رحمه الله - أن أتعلم بالمدارس الحكومية معارضًا ما رأته أمي بأن أدخل إحدى المدارس العالمية التي تدرس مناهج أجنبية، وكان ذلك بالنسبة لي أجمل قرار.
-كيف.. ؟
-تعلمت اللغة العربية واللهجة المحلية، وهذا قد لا يتاح لي مستقبلاً، وتعرفت صديقات بمرتبة أخوات وأسرهن، وما زلت على تواصل معهن وبأسماء لا أجدها إلا هناك... موضي...حصة....مضاوي...هيلة...
توقفت قليلاً كما لو أنها تذكرت شيئًا:
-إن رزقت ببنت سأسميها موضي فتكون الوحيدة من وطني التي تحمل هذا الاسم المضيئ.
-أرى حالة عشق تتلبسك.. !
-ليست كما تذكر... هي انتماء... لو رأيتني قبل أن أذهب إلى المدرسة بالمريول الرمادي ذي الياقات البيضاء، وعندما أقابل الصديقات، ودرس التدبير المنزلي الذي نكون فيه على طبيعتنا... ومرحنا الذي يتلاشى عندما ترغمنا المعلمة على أكل ما طبخناه.
تنهدت...
-وأماني ذوات الظفائر المجدولة...
وانتبهت لمضي الوقت عندما جاء عامل المقهى.
-يا عمي... أنا أحكي لك عن حبي وقد يطول الحديث، فلما لا تذهب معي، إضافة إلى أني سأتعرض للوم أمي وتقريعها لأني لم أستضيفك.
-لا أستطيع الآن، ولا أقدر أن أعدك لأن وقتي في هذه البلاد ملك لمواعيد العمل الذي جئت من أجله... هاه وبعدين...؟
-حسنًا.... وصلت إلى سن الثالثة عشرة بالمرحلة المتوسطة، عندما انتهى تعاقد والدي مع عمله عدنا إلى الوطن... الأيام تجري ودولابها لا يخفف من سرعته، هاأنذا أدرس بإحدى الكليات.... وسأتخرج -بمشيئة الله- بعد ثمانية أشهر.
توقفت قليلاً وكست وجهها مسحة حزن مع تغير في نبرة صوتها.
- توفي أبي - رحمه الله - بعد عامين من عودتنا.
ران صمت ثقيل على طاولتنا فحاولت تبديده.
-أرى حلقة ذهبية في إحدى أصابعك..!
ندت عن تقاسيمها ألوان الطيف فكست الوجه حتى استقر الأجمل فيه.
- مخطوبة... لشاب يعمل في كندا، سيأتي خلال عام لنحتفل بالزواج، وقد أذهب معه مباشرة إذا ما تخرجت من الكلية... أنت مدعو لحفل الزفاف..
-أنا أول واحد.
-أتكلم بجد.
-سأكون - بمشيئة الله - أحد الشهود وهذا أستطيع أن أعدك به.
-وحفل تخرجي..
أنزلت ذقني إلى مستوى الصدر، ورفعت - بحركة أبوية - عيني.
-سأحاول... ولكن أعدك بأن أكون أحد شهود الزواج.
نظرت إلى ساعتي.
-غدًا لا أعلم متى ينتهي عملي، ومساء موعد سفري.
وأردت مداعبتها فأكملت:
-مضى الوقت وحضورك لم يمكنني من رؤية السوق.
-تستطيع التأجيل ليوم واحد.
-لا... فما أسوأ من إنسان تسيره وظيفته ومواعيد الطائرات وهو عاجز عن التغيير.
نهضنا من طاولتنا.. أب وابنته، وقبل أن نخرج من المقهى تبادلنا أرقام التلفونات وترددت على مسمعي كلمة.. لا تنسى.
* * * * * *
استويت على مقعدي بالطائرة التي مضت إلى الفضاء، فرجعت المقعد إلى الخلف
بأقصى درجاته، ونظرت للسقف وأغمضت عيني واسترجعت ما تحدثت به بروين وطفولتها وأمها التي لم أرها وندمت أنني لم أذهب إلى منزلها، ولمت نفسي... لما تمنعت... هل لجرأتها في البداية دور، أم الخوف من المجهول أو عدم إدراكي لقيمة ما وجدته... لا أعلم.. فأكبر مساوئي أن آرائي الثاقبة لا تأتي إلا متأخرة، بعد أن تطير الطيور... سخرت من ردة فعلي حينها وتذكرت كيف وصلت إلى السوق، وابتسمت.... هناك من هو أغبى من سائق التاكسي.. !
** **
- عبدالرحمن الجريفاني
khazel@hotmail.com