نستكمل ما بدأناه سابقًا في قراءتنا لرسالة (اللسانيات والتكامل الثقافي المتوازن في تعليم العربية لسانا أول) للأستاذ الدكتور محمد صلاح الدين الشريف، من إصدارات مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية:
- في الباب الثالث: ص107: «في التصورات الشائعة، ينتصب المفهوم من لفظ «اللسانيات» في مقابل المفهوم من لفظ «التراث» انتصاب الغريم للغريم والمنافس للمنافس، بل انتصاب الأجنبي الغازي المهدد للهوية». أعتقد أن كثيرًا -أو للتحرز قليلاً- من زملائنا وأساتذتنا الذين حضروا إلقاء هذه الرسالة يحملون هذا التصور إلى حد كبير.
- ص108 وما بعدها لا تنسى الرسالة محاولة تشويه من يخالفها منهجها والحط منه باستخدام المجاز الذي يحط من قيمة العلم ولا يرفعه، فتقول: «أمن الضروري أن يكون المعلم لسانيًا مجددًا وشعلة في العلم شاعلة فيعتمد على مفهوم الرؤوس الزمانية كما يقترحها التوليديون وكما قدمها وزاد فيها بعض اللسانيين العرب، وأن يوحل [لاحظ الكلمة] نشاطه التعليمي في وحل [لاحظ الكلمة] العمليات الحوسبية من مزج أو ضم أو فحص وصعود للسمات؟ أم من الضروري أن يكون محافظًا على العربية حاميًا لحماها متعلقًا بأذيال [لاحظ الكلمة] ابن عقيل أو النحو الوافي يتوهمها [لاحظ أنه يتوهم] نسخة ميسرة من الكتاب؟» ثم يأتي بالحل والعصا السحرية التي هي منهجه واختياره ويعقّب بقوله: «فمن الخطإ منهجيًا أن نختزلها إلى مجرد تضارب بين محافظين متزمتين ومجددين متفتحين...» متزمت ومتفتح، وتصور ساذج!! والحق أنه أتى بكلام جميل لكن لا أعلم هل تقر الرسالة بوجوده في غير منهجها ولدى الآخرين، فقال: «إذ في الحقيقة لا موجب مطلقًا ولا سالب مطلقًا» وأعتقد أنه -بناء على قراءتي الانطباعية- بوجود هذا الوصف في رسالته لدى الآخرين الذين يصنفهم. ثم يزيد النفخ في منهجه، ولا أعلم هل هو بحاجة إلى ذلك؟ وهل المركز لا يؤاخذ بانسياقه خلف الملقي وتسويقه لحديثه عن نفسه الذي بلغ شأنًا عظيمًا!! فيقول: «لا نعرف أنحن هنا من زمرة المحافظين المجددين، أم نحن من زمرة المجددين المحافظين. فكثيرًا ما نسبنا عند البعض إلى هؤلاء وعند البعض الآخر إلى أولئك. فحكم المرء على نفسه حكم ذاتي مهما تكلف جهده من الموضوعية. ومع ذلك، لا نخفي [ص109] أننا نعتقد طوال العقود الماضية أننا من المجددين للأصول من داخلها بما يجعلها متكيفة مع الخارج، قادرة على المشاركة الفعالة في تطور المعرفة الإنسانية. فمن هذه الزاوية في النظر يصدر تفكيرنا في ما سبق وما يليه. «هل هناك شخص ممن صنّفهم وحاول الحط من قدرهم يرى في نفسه غير هذا الوصف»؟!!
- ص109: فإن كان المقصود بالوصف منذ أجيال هو «المعيار المشترك» المسمى بالفصحى، فالوثوب إليه ضرب من وضع النعامة رأسها في الرمل وقاية للأخطار [لاحظ التعبير في مجال العلم!]... وأن بين الشعوب من تغريه بعض الأفكار القاسمة لسبب أو لآخر، ولا يحسب لأخطار القسمة حسابًا، وأن بين الخيّرين من يعوزه المنهج في الوصف والتقييم والإجراء [لاحظ التصنيف]...» ثم يرمي في الحاشية: «من قصر النظر أن بعض الجهات هنا وهناك تتمسك بمفهوم ضيق للوطنية...» ولا أحد يحاسبه ما دام يبعثر التهم دون رقيب أو حسيب!! ثم يشرح بحاشية ص110: «الملاحظ في أغلب [هكذا أغلب!] التيارات الفكرية المدافعة على مفهوم الهوية أنها تعتمد الشعارات والمبادئ ولا تدافع عن قضيتها بالوسائل والمفاهيم العلمية وأنها في العموم فقيرة جدًا [ليست فقيرة فحسب؛ إنما جدًا!!] في ثقافتها الموسوعية، وتتكلم حسب صنف من الخطاب يتعارض مع الخطاب العام»، لا أعلم إن كان هناك تيارًا أو باحثًا لم يسلم من هذا الهجاء العلمي المرفوض!!
- ص110: «... حتى نكون على علم بحقيقة المنافذ التي يتسلل منها المتسللون عن حسن نية أو عن قصد مبيّت»!!! «... وأن نستغل مكتسبات اللسانيات لنقطع الطريق أمام من يشيع أن العربية شاذة في تنوعها اللهجي، أو شاذة في نزوع أهلها لاستعمال صيغة مشتركة منها في المقامات الرسمية، ولنحدّ أيضًا من غلو البعض في التفصح المقصي للصيغة المشتركة من المجال الاستعمالي العام، إذ أخطر ما يضر بالوحدة اللسانية هو التشبث باستعمال صيغة لسانية خاصة بالخاصة، مستقلة تمامًا عن المشترك العام السائد»، أي احتقان وتوجس سيخرج به من يصدق هذه التصنيفات والتقييمات للآخرين ويعتنقها ويؤمن بها!! وما كمية الفائدة العلمية -إن وجدت- التي سيخرج بها المتلقي من هذه الرسالة. وما هدفه من هذا التشويه للآخرين؟ وكيف تمرر مثل هذه الترهات والاتهامات اللامسؤولة ويُستخدم اسم مركز الملك عبدالله لتسويقها والترويج لها؟!!! ومن المستفيد منها!!
- انظر الفقرتين ص110 و111: 110: «إن التفكير اللساني الحديث، على خلاف ما يروجه البعض، لا يدعم الكثير من الأفكار... إلا أن هذه المعرفة اللسانية قد لا تقول لبعضنا ما يحب سماعه، وقد تصدمه بقول ما لا يريد سماعه. فهي ككل العلوم تكشف أخطاءنا، وترفع الستار عن بعض معتقداتنا، وتشتت بضوئها أشباحنا وأوهامنا»!!! هل لو قال هذا الكلام باحث آخر سيقبله منه اللغويون الذين رفعوا صاحب هذه الرسالة وأوصلوه هذه المنزلة الرفيعة؟!! ثم يستمر فيقرر ص111: «فمن الناس من لا يقبل أن تكون هذه المسماة بالفصحى لهجة من اللهجات الدارجة من اللسان العربي. ولا نظن المحافظ المتزمت [لاحظ الكلمة]، ولا المجدد المتهور [لاحظ الكلمة] يقبل نعتها باللهجة الدارجة المشتركة الرسمية وإن كانت في الواقع دارجة في... ومن الناس أيضًا من لا يقبل لأسباب تبدو له وطنية أن خريطة الدارجات العربية لا تطابق خريطة الدول الوطنية...» طبعًا هذه التنوعات في رأي هذه الرسالة أخطاء وليست إثراء واختلاف زوايا نظر. ثم يشرح منهجه العظيم المطهر الخالي من العيوب فيقول: «إن المعرفة اللسانية الحديثة، بفضل موضوعيتها المنهجية، لا ترضي إلا الآخذين بالموضوعية العلمية والذين لا يضعون أنفسهم في الأطراف المتزمتة الرافضة لحقيقة «الوحدة المتنوعة»». ولا ينسى أن يعرج على النوايا المبيتة فيقول: «إلا أن الموقف من هذه الموضوعية يختلف بين النوعين المتزمتين. فالواقفون ضد التوحد اللساني يستغلون [لاحظ الكلمة] الموضوعية العلمية لدعم آرائهم باختيار ما يرونه صالحا؛ أما الواقفون ضد التنوع، فيتوجسون الشر في اللسانيات، ويتشبثون بالوصف النحوي القديم، ويعتقدون بغالب الظن أن النحو العلمي الصناعي المسجل في الكتب هو نفسه النحو الطبيعي المسجل في أذهان المستعملين»!! هل بعد هذه سذاجة؟! ومن هم هؤلاء السذج يا ترى؟! ثم يمضي في تقييم الآخرين المجحف: «...وهذا السر في توهم البعض سبق هذه لتلك إلى بعض الأفكار، وفي إسراع البعض إلى فهم الأفكار على قياس ما اختزنوه من أفكار مغايرة»، فالجميع ليس بمأمن من الزلل ما عدا هذه الرسالة!! فإما أن تكون خبيث النوايا، أو ساذجًا ومتزمتًا لقديمك، أو يعوزك العمق العلمي والنظر والتحقيق؛ وملاذك إذن في اتباع هذه الرسالة وما تبشر به! وما أتى به هذا العالم النحرير الفذ!! وبتأييد ومباركة مركز علمي بحجم مركز الملك عبدالله!
سأتوقف هنا وسنكمل في الحلقة التالية ما بدأناه.
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي