متتالية قصصية من ذلك النوع المراوغ الذي يستوجب التركيز حتى لا يتوه المغزى، ومن الميثولوجيا المصرية القديمة التي تخبرنا كيف بدأ العالم وفقاً لها على مسطح مائي مملوء بالضباب، هو النيل لا شك، وهذا ما تخبرنا به أحد القصص في المجموعة، في القصة الأولى كانت الكاتبة منصورة عز الدين تستوجب الغرق في الشخصيات بطريقة الراوي الذاتي، حيث تقول: لا ينتمي مأواي هذا إلا إلى أصحاب العقول المراوغة. عاشقو الغموض والالتباس. من يحدسون بخطو الأشباح في صمت الليل، ويقدرون الأوهام ويحتقرون الحقائق، من يؤمنون بالخيال، ويقدسون الوهم والضلالات. مأوى الغياب لا يخطو في دروبه سوى أصحاب الذاكرة الانتقائية، من يحتفظون في أذهانهم بأدق تفاصيل القصص الخيالية والحكايات الخرافية، فيما تتبخر ذكرى أحداث حيواتهم الواقعية من رؤوسهم. وهنا يكمن تركيز المجموعة القصصية، على الذاكرة والعوالم المتخيلة، من الحطام والاستسلام المضني لما تخلقه الطبيعة في الشخوص، ومن دون سعي إلى التغيير لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه التهيؤات لربة الطلاسم نفسها أم أنها تهيؤات آخرين يوهمون أنفسهم أنهم يعرفون السر المخبأ في عقلها. ورد ذكر هذه الشخصية الغامضة في أكثر من قصة حيث إنها كانت تشير دوماً إلى دلالات الغيب المستورة، إلى المجهول الذي يختبأ في الغياب، ولا نعرف أو هم الذي يعرفون إذا ما كان يجب علينا أن نصدقها أم نؤمن بالكتاب المتألمين الذين حاولوا خلق أنفسهم بقوة اللغة مخترعين عوالم وذوات بالكلمات. يعبر مأوى الغياب كذلك عن الذات المسحورة بالركام حيث اقتبس من قصة صخرة المصير «لطالما أخافتني الأصوات. عبرها عايشت أفظع خبراتي. من ذبذباتها ارتسمت مخاوفي وتشكلت أشباحي. دئماً ما كان هناك صراخ ما، أو ضجة مزعجة أو فحيح منذر بالخطر قبل كل الأحداث السيئة التي أظنني مررت بها. استدرت خلفي، فلم أجد مدينتي. تلاشى الطريق الذي اتخذته وصولاً إلى هذه البقعة. تقلص عالمي إلى حيز أشغله، وصخرة أقف عليها، وهوّة تنتظرني، وما عدا هذا محض فراغ».
وعن الذكريات المرتبطة باللايقين في قصة غابة تسكن بحراً اقتبس: «ليس في جعبتي سوى تخمينات وتأويلات. وسيلة العاجز لترميم حطام الأحداث والبشر. المكان هنا حافل بالحكايات، إلا أنها، كعادة كل ما هو جدير بالاهتمام، منقصوة ومبتورة. ومع هذا كانت تكتمل في رأسي. ليس تخميناً أو حدساً، بل اكتمال حقيقي في غنى عن الكلمات. انتقلت مشاعر كل ما ومن صادفت هنا إليّ. احتلتني واستحوذت عليّ. شعرت أننا كثيرون في كيان واحد». وأما في قصة «ربة الطلاسم» التي اعتبرها من أهم القصص في المجموعة وذلك لتكرار ذكر الشخصية نفسها في عدة قصص أخرى، تخرج هذه الشخصية لتعبر عن نفسها وعن دورها المهم خلف الكواليس أقتبس «عند نقطة ما على الطريق بدت حرارة الجو قادرة على إذابة العالم أمام عينيّ المتعبتين، وبالفعل شعرت كأنه يتماوج مهتزاً قبل أن يسيل ويتبخر لينبعث عالم جديد مكانه.
لم يعد من وجود للبساتين الممتدة ولا لتراب الطريق. حل محلهما عالم من رموز وعلامات. أبصرت تحوت وهو يخلق نفسه بقوة اللغة. اجتمعت الشمس مع القمر في صفحة السماء. بدوا لي كعينيّ حورس اليمنى واليسرى، وكدت أرى وجهه كاملاً بالأعلى. إلى جواره خُيّل إليّ أني لمحت أطياف حتحور وسيشت وباستيت وإيزيس ورع وأتوم تتهادى ببطء كأن الزمن قد انتفى».
في هذه المجموعة القصصية التي رُشحت للقائمة القصيرة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة في دورتها الثالثة، وهي ليست الجائزة الأولى التي يُرشح لها أحد كتب منصورة عز الدين، نجد أنها سعت إلى تفكيك العلاقة بين الكاتب ونصه، وبين اللغة ومتاهات السرد، بين الخرافة والحقيقة وعلاقة كل منهما بالآخر. هي ليست بسهولة أن تمر على القصص مثلما يمر القطار على الحقول، إنها بتلك المراوغة والألغاز التي تستوجب عقلاً فطناً ويقظاً للتعامل مع الدلالات التي حاولت منصورة أن تصل بالقارئ إليها. تطلعت جيداً إلى القصص باعتبارها حالة مترابطة وغير مفككة ومن وجهة نظر تحليلة نجد أن اللغة تحمل تلك العلاقة الغامضة بكاتب النص، باعتبارها دولاب الأنين العام ومصدر التعبير الوحيد عن كل ما يختلج بالنفس البشرية، هنا نجد الكثير من الأسئلة أهمها: كيف يتفاعل الكاتب مع نصه؟ وكيف يغيب وهل يغيب فعلاً في الحاجز الفاصل بين اللغة المكتوبة والقارئ؟ وهل المعنى ينضج بالحسية أم يُعرف من خلال العبور؟
وأخيراً، مأوى الغياب قصص غرائبية نقرأ فيها حطام البشر وأحلامهم الضائعة، ونمر على المدن الهالكة والمتهالكة، ومن الخيال تستمد الأحداث واقعها.. فهل تُعتبر الكتابة محض تدوين لخراب غير مبرر أم أنها وسيلة مجموعة من الناس يطلقون على أنفسهم «كُتاب» لتدوين التاريخ البشري وكافة مشاعره التي نُطقت أو لم تُنطق بعد؟
** **
- أحمد صالح