«عِنْدَمَا يُصْبِحُ الِامْتِيَازُ مِحْنَةً...»
هَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّاسِ تُقَابِلُهُ كِثِيرًا فِي الْحَيَاةِ.
عِنْدَمَا يَرَى فَتَاةً جمِيلَةً يَبْتَسِمُ ابْتِسَامَةً لَهَا مَغْزَىً، وَتَسْأَلُهُ: لِمَاذَا تَبْتَسِمُ؟ فَيَقُولُ لَكَ: يَا عَمِّ.. إِنَّهَا فَتَاةٌ سَيِّئَةُ السُّلُوكِ، وَإِذَا رَأَى وَجْهًا نَاجِحًا فِي التِّلِيفِزْيُونِ قَالَ لَكَ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّهْرَةَ، لَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَرْكَزِهِ بِالْمُصَادَفَةِ وَالنِّفَاقِ، وَإِذَا قَرَأَ لِكَاتِبٍ نَاجِحٍ كَانَ هَمُّهُ الْوَحِيدُ أَنْ يُثْبِتَ لَكَ أَنَّ هَذَا الْكَاتِبَ فَاشِلٌ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ!.
فَمَا سِرُّ هَذَا الشَّخْصِ؟
إ ِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ النَّاسِ يَكْرَهُ الِامْتِيَازَ، وَيُعَادِي التَّفَوُّقَ، وَيَخَافُ خَوْفًا عَمِيقًا مِنْ أَنْ يَرَى شَخْصًا يَتَمَتَّعُ بِمَوْهِبَةٍ لَامِعَةٍ.. لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى تِمْثَالًا جَمْيلًا تَنْظُرُ إِلَيْهِ الْعُيُونُ بِإِعْجَابٍ، وَتَلْتَفُّ حَوْلَهُ الْقُلُوبُ بِأَعْمَقَ مَا فِيهَا مِنْ عَاطِفَةٍ. وَلَكِنَّهُ يَسْتَرِيحُ تَمَامًا إِذَا تَحَطَّمَ هَذَا التِّمْثَالُ وَرَآهُ مَجْمُوعَةً مُتَنَاثِرَةً مِنَ الْأَحْجَارِ!
مَنْظَرُ الضَّعُفِ يُرِيحُهُ وَيُسْعِدُهُ، وَأَوْرَاقُ الْخَرِيفِ عِنْدَهُ أَحْلَى مِنْ زُهُورِ الرَّبِيعِ، وَمَنْظَرُ الدَّمَارِ يُطَمْئِنُهُ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ بِخَيْرٍ.. لَيْسَ فِيهِ تَفَوُّقٌ وَلَا امْتِيَازٌ!!.
إِنَّ تِمْثَالَ فِينُوسَ الْجَمِيلَةِ السَّاحِرَةِ الْكَامِلَةِ يُضْنِيهِ، وَلَكِنْ مَنْظَرُ فِينُوسَ ذَاتِ الذِّراَع ِالْمَكْسُورِ يُرِيحُهُ!!.
هَذَا النَّوْعُ مِنَ «النَّفْسِيَّاتِ» يُعُادِي الِامْتِيَازَ فِي كُلِّ صُوَرِهِ، سَوَاءً كَانَ هَذَا الِامْتِيَازُ وَجْهًا جَمِيلًا، أَوْ شَخْصًا مَحْبُوبًا صَادِقًا، أَوْ عَمَلًا نَاجِحًا، وَالدَّافِعُ الْأَسَاسِيُّ الَّذِي يُحَرِّكُ هَذِهِ النَّفْسِيَّاتِ هُوَ أَنَّ أَصْحَابَهَا لَا يَمْلِكُونَ صِفَةً جَمِيلَةً تُمَيِّزُهُمْ عَنِ الْغَيْرِ، وَهُمْ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ لَا يَعْمَلُونَ وَلَا يَجْتَهِدُونَ لِاكْتِسَابِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ.. وَلَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ الصَّرْصَارِ فِي الْقِصَّةِ الْمَعْرُوفَةِ.. حَيْثُ يَلْعَبُ فِي الصَّيْفِ بَيْنَمَا يَجْمَعُ النَّمْلُ قُوتَهُ اسْتِعْدَادًا لِلشِّتَاءِ.. وَعِنْدَمَا يَجِيءُ الشِّتَاءُ بِعَوَاصِفِهِ وَأَزْمَاتِهِ لَا يَجِدُ الصَّرْصَارُ مَا يَأْكُلُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ وَلَمْ يَجْتَهِدْ.. بَيْنَمَا يَكُون النَّمْلُ آمِنًا مِنَ الْجُوعِ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي الصَّيْفِ وَاجْتَهَدَ.
وَلَكِنَّ الصَّرْصَارَ فِي الْقِصَّةِ الْمَعْرُوفَةِ يَطْلُبُ مِنَ النَّمْلِ أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْضَ الطَّعَامِ.. أَمَّا هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّفْسِيَّاتِ فَلَا يَجِدُ مَخْرَجًا لِأَزْمَتِهِ إِلَّا فِي كَرَاهِيَةِ «الِامْتِيَازِ» وَالْعَمَلِ عَلَى تَشْوِيهِ الْمُمْتَازِينَ وَتَحْطِيمِهِمْ.. وَفَرْشِ طَرِيقِهِمْ بِالْأَشْوَاكِ.
- (رَجَاءُ النَّقَّاشُ)