د.عبدالله مناع
مع مجيئ شهر (أكتوبر).. من كل عام تتداعى لـ (ذاكرتي) ثقافياً: (الإثنينية) ولياليها الغائبة منذ خمس سنوات.. ومهرجان الكلمة الذي كانت تقيمه أسبوعياً: ليل كل اثنين.. بطول شهور الخريف إلى نهاية الربيع في شهر (نيسان) من العام الذي يليه.. وعلى مدى ثلاثين عاماً متصلة بـ (حي، الروضة) في جدة، الذي تغص شوارعه بحضورها.. إلا أن (أكتوبر) هذا العام أضاف إلى تميزه.. ميزة أخرى، هي أنه شهد في ضحوية شيخنا الحبيب (حمد الجاسر).. في الثاني والعشرين منه: (حفل تكريم).. لـ (الإثنينية)، ولصاحبها الشيخ عبدالمقصود خوجة.. الذي لم يتمكن من حضوره.. نظراً لاستمرار توعكه الصحي.. الذي ظل يلازمه منذ موت ثالث أبنائه المفاجئ والصاعق: (إباء).. وهو دون الثلاثين من شبابه، ثم أخذ يتطور.. سلباً من (العضوي) إلى (النفسي).. وإلى حد الملل من الأشياء، والزهد في كثير من مباهج الحياة.. حتى رؤية أصدقائه وأقرب المقربين إليه، الذين كان يسعى إليهم، ويحرص على مجالستهم، والاستماع إليهم بـ (الساعات).. بل وإلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر، فقد أخذ أخيراً يرفض الخروج حتى إلى حديقة منزله.. أو الانتقال إلى غرفة أخرى غير غرفة نومه.. حيث يريد أن يبقى فيها ليل نهار!!
* * *
في هذه الأجواء (الأكتوبرية).. كنت أرفع سماعة الهاتف على ابنه أخى: (المهندس محمد سعيد عبدالمقصود) لأسأله عن أخبار (الشيخ) بصفة عامة.. وعن مدى علمه بـ (الضحوية) التي جرت لـ (تكريمه)، وتكريم (الإثنينية).. فلم يجب على اتصالي الأول من فوره، ولا بعده بساعة أو أكثر، وهو ما دعاني لمعاودة الاتصال به.. في اليوم التالي..!! ولكن اتصال اليوم التالي.. لم يكن بأفضل من اتصال اليوم الأول: فلا رد مباشراً.. ولا مكالمة جوابية بعد حين.. وهو ما حعلني على شيء من القلق مخافة أن يكون قد جرى لـ (الشيخ) ما أخشاه؟! إلا أنني صابرت نفسي إلى اليوم التالي.. ليصدمني عدم رد الابن محمد سعيد.. لـ (المرة) الثالثة!!، وهو ما جعلني أقرب إلى اليقين من أن هناك أمراً جللاً - لا أعرفه - قد حدث، لأقرر - من فوري - الذهاب في اليوم التالي.. إلى مكاتب (الإثنينية) ولـ (إدارة أعمال) الشيخ عبدالمقصود نفسه، فهما في موقع واحد: غرب قاعة الإثنينية الفريدة في تصميمها والفاخرة في أثاثها، والتي كان يستقبل فيها ضيوف (الإثينية) من خارج جدة.. وسط عواصف من الترحيب والمحبة، لا بحيدها أحد.. بمثل ما يفعل (الشيخ).. إلى حين أن يأتي موعد افتتاح (الإثنينية).. عند التاسعة، حيث ينتقل الجميع إلى حديقة الإثنينية ومنصتها و(ميكرفوناتها) وأضوائها.. وقد انتظمت أمامها طاولات الضيوف: بطول الحديقة وعرضها، لتبدأ (الإثنينية) بالقرآن الكريم فـ (السيرة الذاتية) لشخص (المكرم) أو ضيف الإثنينية فيما بعد.. فكلمة الافتتاح التي كان يصدح بها الشيخ، والتي لم أنسها وهو يقول: (أحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، وأصلي وأسلم على خير خلقك: حبيبك وصفيك سيدنا محمد، وعلى آل بيته الكرام الطاهرين وصحابته أجمعين. الأستاذات الفضليات.. الأساتذة الكرام)..!
* * *
عندما وصلت إلى مقر الإثنينية.. كان الشارع خالياً إلا من عربة واحدة.. هي عربة الأخ (فروق) أحد العاملين بإدارة (الإثنينية)، الذي استقبلني مرحباً ومحيياً.. إلى داخل مكتب المهندس محمد سعيد عبدالمقصود.. وهو المكتب الوحيد المأهول في المبنى.. أما دورا المكاتب الرحبة وذات الممرات الواسعة والأسقف العالية.. فقد كانتا تغرقان في صمت عميق لم أكن أرجوه، ولم أكن أستبعده!! لأسأله عن أسباب عدم رد المهندس محمد سعيد على هواتفي الثلاث؟ فقال: السبب.. إنه لم يكن موجوداً في جدة، وإنه سيعود غداً.. وسأجعله يهاتفك.. وقد كان، لأخرج بالأخ (فاروق).. إلى دائرة الشيخ.. ودائرة السؤال عنه، ليخبرني بأنه يمكن له أن يخرج من غرفة نومه، وأن يلتقي من يشاء.. ولكنه لا يريد ذلك: زهداً أو مللاً وربما اكتئاباً، رغم أن ابنه المهندس محمد سعيد وبناته وأحفاده يحاولون معه الخروج - ولو - من أجل تقديم واجب العزاء للخاصة من أصدقائه.. مثلاً كما حدث عندما مات صديقه - المرحوم - الأستاذ عبدالله أبو السمح.. ولكن دون فائدة، فهو يصر على أن يبقى داخل غرفة نومه.. دون أن يغادرها إلا لقضاء (الحاجة)، وهو أمر يحمل الكثير من الخطورة على حياته.. دون شك!!
* * *
لقد قيل عن حفل التكريم الذي جرى لـ (الشيخ) ولـ (الإثنينية) في ضحوية الشيخ حمد الجاسر.. بأنه كان أقرب ما يكون إلى (الحفل التجريبي)، فلم يشارك فيه غير عدد محدود من المتحدثين.. إلى جانب المتحدث الرئيس: الأستاذ الدكتور عبدالمحسن القحطاني.. إلى جانب أصحاب المداخلات القليلة التي تبعتها، إلا أن عظمة (الحفل) تبقى.. في أنه أول حفل تكريمي لـ (الشيخ عبدالمقصود خوجة) ولـ (إثنينيته).. لرجل يستحق التكريم على كل الأوجه،.. وعلى كل المستويات، فالذي قدمه عبدالمقصود خوجة لـ (الثقافة) والمثقفين.. تعجز عنه الوزارات المتخصصة!!: فقد كرم أربعمائة وخمسة وثمانين مثقفاً وأديباً وشاعراً وكاتباً وباحثاً.. من الداخل والخارج، وقام بتسجيل تجاربهم بـ (الصوت) و(الصورة).. في ثلاثين مجلداً: كان أولهم عام 1403هـ الموافق لعام 1983م ، وكان آخرهم عام 1435هـ الموافق لعام 2014م.. إلى جانب طباعته لكثير من الأعمال الكاملة لـ (الرواد) من الأدباء..
لقد فعل الكثير.. وهو يستحق الكثير، سواء من جامعات المملكة أو أنديتها الأدبية.. أو منهما معاً.