د.عبدالله مناع
فاجأني الأستاذ يعرب عبدالله بلخير.. مدير عام العلاقات العامة بـ(السعودية) في أيامه.. بـ(هاتف) غير متوقع -بعد أن باعدت بيننا ظروف الأيام والليالي- ليخبرني خبرًا.. أبعد ما يكون عن التوقع، هو: صدور كتاب جديد عن والده: (الشيخ عبدالله بلخير) الشاعر والأديب والمثقف اليعربي الكبير ووزير الدولة لشؤون الصحافة والإذاعة والنشر.. الذي يبدو من نضارته وكماله وكأنه تمت صياغته.. في (ألف عام)!! وإن كاتب الكتاب: هو (ابن يعرب).. و(حفيد الشيخ عبدالله): سلطان يعرب عبدالله بلخير، وأن اسم الكتاب هو: (سيرة ومسيرة معالي الشيخ عبدالله بن عمر بلخير)، وأنه يريد موعدًا لابنه (سلطان).. ليحضر الكتاب، ويقدمه هدية شخصية لي.. نظير محبتي الشخصية لـ(الشيخ عبدالله بلخير) التي يعرفها عن والده - تمام المعرفة: فقلت: ليكن غدًا (الأحد) في مقهانا.. إذا كان ذلك مناسبًا؟
فقال: نعم.. لأجد الابن (سلطان)، وهو ثلاثيني.. تخرج من إحدى الجامعات الأمريكية في الاقتصاد والإدارة.. حوالي التاسعة تمامًا من مساء اليوم التالي يتحسس مقعده في المقهى.. لأقول له: إذن أنت سلطان يعرب عبدالله بلخير..؟
قال: نعم.. وهو يقدم لي كتابه: (سيرة ومسيرة معالي الشيخ عبدالله بن عمر بلخير).. لتلفت انتباهي ألوان غلاف الكتاب، التي لم تخرج عن اللونين: الأبيض والذهبي.. وعلى النصف الأيمن من غلاف الكتاب.. ظهرت صورة للشيخ عبدالله بلخير بـ (أناقته) المفرطة، وجلسته المعهودة التي يضع فيها ساقًا على ساق..!!
بعد أول رشفة من فنجان قهوتي.. كنت اسأله عن دوافعه لـ (كتابة) كتاب عن شخصية معروفة كُتب عنها أكثر من كتاب، ورويت قصة حياتها أكثر من مرة.. في الصحف والإذاعة والتلفزيون.
فكان رده: إعجابي الشخصي به، وبـ (الكلمات) التي كان كثيرًا ما يرددها على مسامعي.. حتى حفظتها.. وهي التي صدرت بها (مقدمة) هذا الكتاب، وهي التي تقول: (كم أتمنى لشباب أجيالنا الصاعدة اليوم أن يتعرفوا على الرجال ممن يكبرونهم سنًا، ويستمعوا إليهم ويحضروا مجالسهم، ويستفيدوا من المعلومات التي يسمعونها، وأخبار الحوادث التي يروونها.. فتزداد معارفهم، وتتفتق أذهانهم بالمعرفة والثقافة والوعي، ويستفيدون في حياتهم معنويًا وعمليًا بالكثير من تلك المعارف التي يلتقطونها.. من معرفة الرجال، والتعرف بهم والسعي إلى زياراتهم والحرص على أحاديثهم)..!!
لقد تركت تلك الكلمات في قلبي الأثر الكبير والعظيم.. فأخذت اقرأ وأبحث واتتبع جميع ما قاله، وقيل عنه.. حتى تعرفت عليه أكثر، وازداد فخري به وشوقي إليه يومًا بعد يوم!
ومن (منطلق هذا الفخر والاعتزاز بشخصه، وتعبيرًا عن حبي واحترامي له.. قررت أن أعد مؤلفًا، أجمع فيه أكبر قدر ممكن من المعلومات المتاحة عنه لتخليد اسمه وأعماله من الضياع، وكما قالوا: «من أرَّخ لمؤمن.. فكأنما أحياه، ومن قرأ تاريخه.. فكأنما زاره»)..!!
بعد أسابيع قليلة.. كنت قد انتهيت من قراءة معظم ما جاء في كتاب الابن - أو الحفيد -: سلطان يعرب عبدالله بلخير.. بأعلى درجات السعادة.. لاحتواء الكتاب على عشرات التفاصيل - التي كنت أخشى أن يتجاوزها (الحفيد) عن حياة (جده) الشيخ عبدالله بلخير.. تأتي في مقدمتها لحظة تعرف الملك عبدالعزيز.. على ذلك الشاب المكي النحيل، الذي يدرس بمدارس الفلاح بمكة، ويقول (الشعر) ويسميه زملاؤه: (شاعر الشباب)..
لقد كان ذلك اليوم من عام 1936م.. هو يوم ميلاد عبدالله بلخير الأكبر والأهم، وقد أقامت العاصمة مكة في صباح ذلك اليوم.. حفلاً عسكريًا ضخمًا في منطقة (جرول).. بحضور الملك عبدالعزيز، وحضور ضيفه الاقتصادي المصري الأشهر: (طلعت حرب)، الذي قدم إلى مكة لـ (احتواء) بقايا الخلاف حول (المحمل) أو سقوط دولة الخلافة العثمانية في (استامبول).. ليعقب هذا الحفل الصباحي.. حفل آخر ما بين العصر والمغرب في فندق بنك مصر.. حيث ألقيت الخُطَب والقصائد، التي كان من أهمها وأعظمها قصيدة عبدالله بلخير:
(عجب موقف الكنانة منا
ما عرفنا لسره تعليلاً
قرب الأبعدون منا وصدت
وتمادت فما عسى أن نقولا؟
أجميل بها الصدود وحتام؟
أما آن للجفا أن يزولا؟
- قسمًا بالذي برا الكون لايمـ
لك فرد سواه فيه فتيلا
لو مشت (مصر) نحو (مكة) شبرًا
لمشت مكة إلى (مصر) ميلا
لتنتهي (الأزمة) التي كانت ما تزال بقاياها بين البلدين الشقيقين، وليسأل الملك عبدالعزيز عن هذا الشاعر الشاب.. ليتم تكليف وكيل وزارة الخارجية آنذاك الأستاذ (فؤاد حمزة) لترتيب أمر ابتعاثه إلى (الجامعة) الأمريكية.. ليفيد الوطن بعد تخرجه، وهو ما حدث فعلاً.. ليكون ذلك اليوم هو يوم الميلاد الحقيقي لـ (الشيخ عبدالله بلخير)..!؟ الذي فتح له الأبواب، وصعد به إلى الذرى!!
إلا أن.. (الابن) أو -الحفيد-: (سلطان يعرب عبدالله بلخير).. لم يعط -في كتابه- المبادرات الصحفية التي أطلقها الشيخ عبدالله بلخير طوال سنوات حياته العملية، فلم يشر إلى تلك الصحف اليومية والأسبوعية التي ظهرت فجأة في الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي كـ(الأضواء) و(الندوة) و(الأسبوع) التجاري و(قريش) الأسبوعية و(حراء) اليومية، وقد كان لها حضورها مجتمعة ومنفردة.. حتى إذا صدر القرار الإعلامي بـ(إيقاف) الأضواء عن الصدور.. حلت محلها صحيفة (الرائد) أو (مجلة الرائد).. التي استمرت حتى وصول نجم الإعلام السعودي الجديد -آنذاك - (لشيخ جميل الحجيلان) وصدور نظام المؤسسات الصحفية، الذي ألغى (صحافة الأفراد).. وأقام بديلاً لها صحافة المؤسسات..
كما أن (الحفيد).. لم يشر من قريب أو بعيد، إلى المحاولات الموفقة التي بدلها الشيخ عبدالله بلخير في التواصل في تلك الأيام المبكرة بين علماء الحرمين والملك سعود من أمثال الشيخ علوي المالكي والكتبي والمشاط.. ربما خشية أن يتهم بـ(المبالغة)، إلا أنه لم يشر أيضًا إلى تلك المبادرات التعليمية الرائعة التي قدمها الملك سعود.. كـ(القصور السبعة) في جدة.. أو في إنشاء جامعة الملك سعود في الرياض..!!
ومع ذلك يبقى الكتاب بـ(محتوياته) التفصيلية عن الجامعة الأمريكية في (بيروت).. وعن جمعية (العروة الوثقى)، ودورها في التقريب بين شباب العرب في مختلف أقطارهم.. يشكل عناصر جذب لقراءته دون شبك.. إلى جانب عشرات القصائد والملاحم الكبرى.. التي سمح لـ (الحفيد) بـ (الوصول) إليها ونشرها في هذا الكتاب الجميل عن زمن جميل ولى، وليته يعود..