د.عبدالله مناع
في الثاني من شهر نوفمبر من عام 1917م.. أصدر وزير خارجية بريطانيا المحافظ آنذاك: (جيمس آرثر بيلفور).. رسالة جوابية لصديقه المليونير اليهودي ليونل وولتردي روتشيلد.. يقول نصها: (عزيزي اللورد روتشيلد: يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك.. (التصريح التالي): تعاطفاً مع أماني اليهود التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء: أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لـ «الشعب» اليهودي في (فلسطين)، وستبذل أفضل مساعيها لتسهيل تحقيق هذه الغاية.. على أن يفهم جلياً أنه لن يسمح بأي إجراء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الجماعات غير اليهودية القائمة في فلسطين، ولا بالحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى).. وهي تحفظات شكلية لـ (ذر الرماد في العيون).. أرادت بها (بريطانيا) أن تظهر للعالم حرصها على (العدالة) بين الجماعات المختلفة في فلسطين.. ليس أكثر بينما لم تكن هناك - أصلاً - من جماعات أخرى غير أصحاب الأرض الحقيقيين: (الفلسطينيون) من المسيحيين والمسلمين، الذين تم إغفالهم من (نص) تلك الرسالة.. التي أصبحت تعرف فيما بعد بـ (وعد بيلفور)!! الذي تحقق على أرض الواقع الفلسطيني في (اللد) و(الرملة).. وفي حيفا ويافا.. مع نهاية الانتداب البريطاني عام 1948م - و(قيام) دولة إسرائيل!.
* * *
لقد أخذ المهاجرون اليهود بعد إطلاق (وعد بيلفور).. يتدفقون بـ(المئات) والآلاف من شرق أوروبا وغربها.. ومن كل أصقاع العالم.. إلى الأراضي الفلسطينية.. دون حسيب أو رقيب: فـ(دولة الانتداب) على مصر والعراق وفلسطين وجنوب الجزيرة العربية.. بموجب قرار «عصبة الأمم» هي: (بريطانيا)، و(الوعد) بإقامة وطن قومي لـ(اليهود) في فلسطين.. هو بريطاني، فمن يمنع ومن يسمح غيرها.. وهي الإمبراطورية التي لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس قوة وتمكنا آنذاك؟
ليعاني الفلسطينيون.. من تلك الهجرات اليهودية المتلاحقة بامتداد العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.. والمدعومة (لوجستياً) واقتصادياً من قبل الإمبراطورية البريطانية.. وإلى أن دخلوا في مواجهات عسكرية مسلحة معها.. لعل أبرزها على المستوى (الإقليمي) هو ما عرف بـ(ثورة البراق) في ثلاثينات القرن الماضي.. والتي أعقبتها الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى في مايو من عام 1948م، التي شاركت فيها سبع دول عربية، والتي انتهت - وبكل أسف - ليس بـ (طرد) هؤلاء المهاجرين الأغراب عن فلسطين وأرضها وترابها.. بل بـ(كشف) الفساد والضعف العربيين في مواجهة تحديات المستقبل العسكرية التي فرضها وجود (إسرائيل)، فقد تواصلت الحروب الإسرائيلية ضد الأمة العربية بعد ذلك.. من الحرب على غزة عام 1954م.. إلى الحرب على مدن القناة عام 1956م في أعقاب (التأميم).. وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية التواطئية الكبرى في شهر حزيران - يونيه (عام 1967م).. وانتهاءً بـ(حرب) أكتوبر 1973م.. ليصبح القرن العشرين.. وكأنه قرن المواجهات العسكرية المسلحة ضد (إسرائيل) بسبب ذلك (الوعد)، الذي أطلقه (بيلفور).. وراح ضحيته مئات الآلاف من الفلسطينيين!.
* * *
لقد قيل عند إطلاق (الوعد): إن السبب الرئيس الذي حمل (بيلفور) على إطلاقه.. هو قطع إمكانية التواصل جغرافياً.. بين مشرق العرب ومغربهم.. حتى لا تكون هناك أدنى إمكانية - بوجود إسرائيل الغريب والشاذ في قلب الأراضي العربية - لاحتمالات قيام دولة عربية كبرى: بين المشرق العربي والمغرب العربي.. كما كانت تنادى بذلك أحلام (الثورة العربية الكبرى) التي انطلقت من مكة المكرمة عام 1916م.. أما (اغتصاب) الأراضي الفلسطينية، وتحويلها إلى أراضٍ (يهودية).. فلم يكن يعني (بيلفور) من قريب أو بعيد، ولذلك كانت المعاناة من (الوعد) أو (الاستيلاء) أو (الاحتلال).. وكلها أسماء لشيء واحد هو (اغتصاب) الأرض الفلسطينية جهاراً نهاراً.. هي أكبر معاناة يشهدها تاريخ الإنسانية الحافل بـ (المآسي)، فلم يعرف التاريخ الإنساني.. حتى قيام (إسرائيل) شيئاً اسمه: (سرقة الأوطان).. أو أن مواطناً يعود إلى منزله فيجده مسكوناً بغريب من (الغرباء)، أو أن مواطناً قد عاد إلى مزرعته.. فوجدها قد تم احتلالها والاستيلاء عليها، ولم تستطع أن تعيد الشرطة أصحاب المنازل أو المزارع إلى منازلهم أو مزارعهم.
* * *
أما اليوم.. وبعد مائة عام من (الوعد).. الذي قابله صمود فلسطيني أسطوري نادر.. فإن المنطق البريطاني لم يتغير كثيراً بكل أسف، فـ(البريطانيون).. يريدون أن يقيموا (احتفالية) بمناسبة مرور مائة عام على (وعد بيلفور).. وكأنه (الوعد) الذي جاء للفلسطينيين بـ (الرخاء) والاستقرار والازدهار.. ولم يأت لهم بـ(الموت) و(الشتات) و(الضياع).. لـ(مائة عام).. بينما تستعد القيادة الفلسطينية عبر وزير خارجيتها الدبلوماسي البارع (رياض المالكي) لـ(مقاضاة) بريطانيا على تلك الجريمة - جريمة الوعد، الذي فتك بـ(حاضر) و(مستقبل) أمة على مدى مائة عام.
* * *
ولا أظن أن هناك من مقاضاة لـ(بريطانيا).. بـ(أعظم) من مطالبتها بـ(الاعتراف) الفوري بالدولة الفلسطينية.. على حدود الرابع من يونيو من عام 1967 م، وعاصمتها (القدس الشرقية)، فبعد مائة عام من الضياع والتشرد والموت.. يتوجب أن يكون لـ(الفلسطينيين) دولة.. في إطار (حل الدولتين) اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام.. وكما هو قرار (اللجنة الرباعية).. مع دعم بريطاني اقتصادي لـ(الدولة الفلسطينية) الوليدة.. يمكنها من الوقوف بـ(استقلال) على قدميها.