قراءة في كتاب (الجسد والطبيعة في شعر المكفوفين...عبد الله البردوني نموذجا) الصادر عام1438هـ / 2017م عن (دار المفردات) للنشر بالرياض, لمؤلفه /عبد العزيز عبد ربه الحازمي.
يقع هذا الكتاب – الموجود بين أيدينا الآن – في 214 صفحة من القطع العادي, وهو عبارة عن دراسة أدبية لشعر المكفوفين, قام خلالها المؤلف بإبراز تراكيب الصورة الشعرية المنعكسة في نفوسهم ومشاعرهم تجاه ما يحيط بهم من الكائنات, من حيوان ونبات وجماد ,وغيرها من الظواهر البيئية والكونية ,وكيف وصفوها بأشعارهم, من الناحيتين: الحسية والمعنوية؟
وقد اختار مؤلف الكتاب الشاعر العربي اليمني الكبير المعروف عبد الله البردوني نموذجا لهذه الدراسة لأسباب عدة, أهمها أنه واحد من أكبر شعراء العرب في القرن العشرين, ولكونه من أغزرهم إنتاجا, بالإضافة إلى كونه من الشعراء الذين اهتموا بـ (الصورة البصرية) وافتتنوا بها, ولخياله المجنح, ولمقدرته الشعرية الفائقة المتمثلة بتمكنه من تقنيات بنائها, وتخيل أبعادها, بالرغم من أنه كفيف البصر! لدرجة أنه تمكن من وصف معالم الحياة من حوله بشكل فاق وصف أولئك المبصرين من البشر بكثير.
ويقول المؤلف في «المقدمة» حول هذا الموضوع:
«لا بد من وقفة أمام الشعراء المكفوفين الذين يجسدون في عملهم شخصية ثقافية ونماذج في شعرهم وصولا لخصائص وإبراز ملامح عن شعرهم, وانطلاقا من ذلك فقد ركزت على أحدهم في العصر الحاضر وعلى أعماله الشعرية المدونة في مجلدين باسمه وهو الشاعر اليمني عبدالله بن صالح بن عبدالله بن حسن البردوني المشهور بعبدالله البردوني. وعدد صفحات مجلديه 1757 صفحة حيث يضمان مجموعة من إصداراته من دواوين شعرية».
ويمضي المؤلف بحديثه من المقدمة ذاتها عن البردوني, متطرقا لأسلوبه ومنهجه الذي اعتمده في هذه الدراسة قائلا:
«وقد سلطت بعض الضوء على أبيات من الصيغ التي استخدمها في شعره ولخصتها في مجموعتين:
الأولى: عن مكونات الجسم وما قاله عن أعضاء الجسم وكيف أوردها لأنها قريبة لإحساسه.
الثانية: صيغ طبيعية لمعرفته ببعض الأماكن والتضاريس والمشاهد التي يتحسسها ويسمعها من الآخرين شفهيا أو عن طريق الإعلام وقنواته بالصيغة التي يستقبلها, أو وصفه حدثا معينا بإدراكه الحسي». انتهى كلامه.
وقد استمر المؤلف في هذه المقدمة الطويلة لكتابه هذا متحدثا بشيء من الإسهاب عن (الشعراء المكفوفين) بشكل عام, ومشاهيرهم من العرب خاصة, من أمثال: بشار بن برد, وأبي العلاء المعري, والسائب بن فروخ, المعروف بـ (أبي العباس الأعمى) وربيعة بن ثابت, وغيرهم, مشيدا بشاعريتهم الفذة, وما يتميزون به من مواهب ومقدرات فائقة, اعتمدت على السمع واللمس والشم والذوق, وسعة الخيال والإدراك, عوضهم الله بها عن فقدانهم لأبصارهم, حتى فاقوا بها أولئك المبصرين من بني جنسهم!
بعد ذلك قام المؤلف بإيراد عشرات الأبيات من شعر البردوني, كأمثلة على تقسيمها إلى القسمين الرئيسين اللذين سبقت الإشارة إليهما في عنوان الكتاب (الجسد والطبيعة) ابتداء بـ (الجسد: من الرأس حتى أخمص القدم) وانتهاء بـ (الطبيعة) التي شملت الكائنات الحية الأخرى, من حيوان ونبات وجماد, وظواهر أخرى, بيئية وكونية.
ومثال ذلك قول البردوني في «الرأس» من الجسد:
غير رأسي أعطني رأس جمل غير قلبي أعطني قلب حمل. الكتاب: ص31.
وقوله في وصف «الأعاصير» كظاهرة جوية طبيعية تعصف بالقمم, ويقارنها بمشهد إنساني, لتشابه الصورتين من حيث المعنى, باعتلاء أحد الشيئين للآخر:
والأعاصير تركب القمم الحيرى كما يركب الجبان الفرارا. الكتاب: ص182.
وقد أشار في «الخاتمة» إلى هذا التقسيم على نحو إحصائي, بقوله:
«في نقشي المتواضع وفي اختياري المقل من أبيات ذلك الشاعر المبدع عبد الله البردوني اخترت من مفرداته وجمله عن جسم الإنسان, وأخرى عن الطبيعة حوالي مائتي عنصر, وقد جسد هذا الشاعر أزمة بصره برؤياها وقوة معانيها ووصفها واستخدامها في ظروفه وأزماته وبغضه وهيامه وعشقه وحبه وبحوره زاخرة وشواطئه عامرة ولا يهادن في غضبه وفرحه وقذفه, وأدواته أحيانا يسخرها من البيئة وما حوله مستخدما أحاسيسه فهو متميز ولديه قدرة عجيبة وكفاح وتصميم رغم أنه كفيف...». الكتاب : ص202.
وفي ختام حديثي عن هذا الكتاب, أقول إنه لا يخلو من الفائدة والمتعة والطرافة, وإن كان لا بد لي من مآخذ عليه, فأقول إنه يمكنني أن أجملها في النقاط التالية:
1- إن المؤلف لم يكن موفقا – حقيقة – في اختيار العنوان المناسب للكتاب (الجسد والطبيعة...) وذلك لكونه عنوانا عائما, فضفاضا, تنقصه الدقة, خاصة في استخدامه للفظ (الطبيعة) الذي شمل جوانب معنوية في هذه الدراسة من حياة الإنسان لا دخل لها في الطبيعة- كمصطلح علمي - يرتكز مفهومه – أساسا - على الظواهر الحسية للكون والكائنات, وليس على أسماء المعاني ,كالصمت والأحلام والحب والعشق والأوجاع والآلام, والظلم والجهل...إلخ والتي هي من خصائص الإنسان, والنفس البشرية.
2- خلط المؤلف كثيرا في المعنى المقصود بين كلمتي (الجسد) و(الجسم) وأوردهما في أكثر من موضع بالكتاب وكأنهما شيء واحد! مع العلم أن هناك اختلافا بينهما من حيث دقة الدلالة, وإن كان مدلولهما العام واحد. فالجسد (كلمة شعرية) ذات مدلول فني جميل, بينما تظل كلمة (الجسم) كلمة علمية, مرتبطة بمعنى طبي تشريحي فسيولوجي, خاصة أن المؤلف هنا يتحدث عن (أعضاء جسم الإنسان وخصائصها) في شعر البردوني, من نواح علمية طبية تشريحية وظيفية (العين للنظر, الأذن للسمع, الأنف للشم, اللسان للتذوق... وهكذا).
3- أسهب كثيرا في سرد عشرات, بل مئات الأبيات من شعر البردوني, كأمثلة مباشرة على (الجسد والطبيعة) لكنه – للأسف – تحاشى تماما شرحها أو التعليق عليها, وهذا مما حرم القراء من معرفة جماليات الصورة الشعرية وتفاصيلها, أو سر بنيتها الفنية الداخلية, ومدى براعة الشاعر في رسمها, واكتمال جوانبها في مخيلاتهم وأذهانهم. كما أن ذلك قد أدى – بدوره – إلى عدم معرفة القراء أنفسهم بما يريد أن يقوله المؤلف ويوصله إليهم بالضبط, حين يسرد عليهم قائمة طويلة جدا من الأبيات الشعرية, التي لا بد أنها تتضمن صورا شعرية جميلة, لكن المؤلف هنا لم يستطع أن يصف لهم مواطن الجمال في كل صورة على حدة, أو يفسره, وأين يكمن سر جمالها تحديدا؟ ولماذا اختارها المؤلف لتكون نموذجا لعلاقة الشاعر بما حوله, دون غيرها من الصور التي تضمنتها آلاف الأبيات؟
** **
- عرض وتحليل/ حمد حميد الرشيدي