الذهاب إلى القرية لشخص مثلي -أدمن المدينة- ليست مجرد نزهة عابرة ،أو تغيير طقوس حياة ،هي عودة فرع إلى أصله ،عودة إلى الأصالة إلى تاريخ أثير من البساطة والمباشرة وزخم الذكريات.
فى قريتي (مصاولي) وهي بالمناسبة قرية كبيرة المساحة قياسا بجاراتها ،ذات موقع إستراتيجي ،فهي تعيش فى حضن جبلها الأشم (رثباء) تستقي منه شيئا من شموخها وكبريائها ،لها إطلالة على تهامة فهي آخر نقطة فى الأفق القريب عندما يشخص بصر التهامي عاليا إلى أفق السماء.
فيها تعددية على مستوى الجغرافيا ،وإن كان ناسها ما زالوا محافظين على وحدتهم من ناحية النسب والتاريخ والتمسك بالأرض.
قبل أربعين عاما قرر والدي المتيم بالحجاز أن نعود إلى (الديرة)، إلى القرية ،لأن مالك البيت الذي كنا نسكنه في الطائف أراد إخراجنا بالقوة ،عز ذلك على نفس والدي ،وشعر بالإهانة جراء هذا التصرف البغيض ،بالمثل أشعلت أمي في والدي مرجل العار وكبرياء النفس وقالت له :-الآن يجب العودة إلى الديار.
ثلاثة أخوة وأم ووالدهم ،يحزمون أمتعتهم القليلة متوجهين إلى الجنوب ،طاوين صفحات من عيشهم وذكرياتهم وآمالهم.
الرحلة كانت برية مع الأمتعة ومستلزمات الحياة القادمة ،وما زالت الصور الفتوغرافية تعكس بساطة الحياة فى ذلك الزمن ،مظهرا ومخبرا ،ما أجمل ذلك الزمن وما أجمل نقاءه وبهاء إنسانه.
منذ ذلك الزمن والقرية جزء منا ،فهي مسرح حياتنا ،وذكرياتنا ،آمالنا وآلامنا ،شهدت تلك القرية كل ذلك وأكثر، وما زالت تروي عنا الحكايا حتى ونحن بعيدون عنها.
القرية بسكونها وبساطتها تُعيدك إلى نفسك ،إلى وعيك بذاتك، إلى حوار داخلي تعيد فيه تحديد أطرك ومفاهيمك ،حتى أمنياتك وأحلامك.
القرية بسكونها تعيد فيك الأمل بغد مشرق وضاء بالرضا والإنجازات.
في قريتي ،الناس نالوا حظا كبيرا من التعليم والثقافة والمعرفة ،وفي المقابل ما زالوا متمسكين بتراثهم وأصالتهم ،نخوتهم وشهامتهم عنوان اللقاء بهم ،وكرمهم يفوق ما يتصنعه الأغنياء والموسرون فى المدن والنواحي الأكثر تمدنا ،الكرم عندهم صفة فطرية متوارثة من الآباء إلى الأبناء ،وليست مجرد صفات مظهرية مكتسبة تفرضها اللحظة ومتطلبات الحياة وتغيراتها.
في قريتنا نعيش التكافل بكل صوره وأجلى معانيه ،في الفرح والترح، في العسر واليسر الناس سواسية ،والشعور بالواجب تجاه الآخرين يبقى فرض عين على كل قادر على العطاء والبذل.
العيش في القرية أو اللجوء إليها فترات متباعدة ،هو في الحقيقة إعادة ضبط للنفس ومشاعرها ،إعادة ضبط لهدوئها ،لنزعاتها ونزغاتها،عودة إلى الصفاء والنقاء والتجرد من صخب المدينة وأخلاقها ومتطلباتها.
سكون المكان في القرية يغمرك بالسكينة ،يعيدك إلى أصولك الإنسانية ،يحررك من العادات التي جعلتك رقما فى حياة مادية متسارعة تقتل الإنسان وتصادر مشاعره وأحاسيسه.
نسيت أن أخبركم أن امي أغلى ما في القرية ،فهي تختزل الجمال المحيط في داخلها ،فهي السكون والنقاء ،والصفاء والتكافل والبذل والعطاء ،هي تاريخي وجغرافيتي ،هي الناس ،والطبيعة ،هي الخضار معشبا في عطفها وحنانها ،تحت قدميها جنة ،نسألها الله ختاما وملاذا ورزقا ،وفوق الأرض قرع خطاها وهي ما تزال تمشي في مناكب الحياة تتعاهد الأماكن وذكرياتها.
إنها قريتي (مصاولي) كانت وستظل ملهمتي، أرض أحلامي وطموحاتي وذكرياتي ،أتعاودها بين الحين والآخر ،وأتعاهدها مكانا وإنسانا ،فيها أنيخ شيئا من الألم لاتزود بالأمل زادا يعينني على المضي قدما فى دروب الحياة مسافرا حتى حين.
** **
- علي المطوع