الثقافية - محمد هليل الرويلي:
وبعد أن مضت ركائب وأشرعة «الثقافية» مجدفة بنيل وأرض وفضاء أم الدنيا المحروسة في الجزأين السابقين ما بين إعلامها وأعلامها من رواد وحداثيّي شعرائها ونقادها وقاصيها وروائييها, نستحث السير في صفحة (رقيم ودهاق أوطاننا العربية) التي استهللناها بمصر ونتتبع في الجزء الأخير منها نشأت بلاغتها هذا العلم الذي ينضج ولم يحترق, ثم نتكئ على فرش ووسائد وثيرة ونحن نجول في صالوناتها الأدبية, ونرفع ستائر مسرحها ونلتقط أفلامًا سينمائية أنتجت في كنانتها..
رواد البلاغة العربية في مصر
كشف الدكتور أيمن أبو مصطفى أن البلاغة العربية نشأت لخدمة القرآن الكريم, مستدلا على أن كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني هو أوضح ظاهرة بلاغية سبقتها -بلا شك- محاولات جادة بداية من البديع لابن المعتز ومرورا بمجاز القرن لأبي عبيدة معمر بن المثنى ثم ما تناوله الجاحظ في كتبه، حتى استوت البلاغة ظاهرة في يد عبدالقاهر الجرجاني، الذي فتح الآفاق أمام الباحثين وبدأ يبحث عن أسرار البلاغة في كتب الشعر والنثر ويحاول أن يضع يده على أدلة الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم. واستدرك «أبو مصطفى»: لكن هذه النظرة لم تُستثمر الاستثمار الأمثل، بل تلى ذلك الجهد عمل الفلاسفة والمناطقة، فأطروا ونظروا وقعدوا، وجعلوا للبلاغة فروعا وأقساما، وتناسوا روح البلاغة التي أحياها عبدالقاهر الجرجاني.
وأضاف: ثم تتابعت العصور والقرون وجمدت الدراسات البلاغية، حتى تلقف الشيخ محمد عبده رحمه الله في نهايات القرن التاسع عشر كتاب دلائل الإعجاز وقام بشرحه بالجامع الأزهر في محاولة جادة للبدء من حيث انتهى عبد القاهر الجرجاني، ومن يومها بدأ التفكير في تجديد البلاغة، وكان من أبرز من نادوا بذلك الشيخ أمين الخولي، والشيخ عبدالعزيز البشري، والشايب، والزيات، والمقدسي.. وغيرهم. وقد ذكر العلامة د. سعد مصلوح أن تجديد الشيخ أمين الخولي لم يكن انعتاقًا من القديم، بل هو سير على مبدئه الذي أرساه حيث قال «إن أول التجديد هو قتل القديم فهمًا».
المعارك البلاغية بين أنصار القديم والتجديد
وتابع «أبو مصطفى» لقد كان لذلك صدى بل تأثير بلغ المدى، بعد ما دارت المعارك بين أنصار القديم وأنصار التجديد، إلى أن كانت البادرة التي أشعلت الحماس، وأثارت الرأي، وتلك هي معركة البلاغة التي حَمِي وطيسُها على صفحات مجلة الرسالة بين د. علي العماري، وأمين الخولي، ثم انضمَّ إليهما آخرون، وتَثُور قضيَّة التجديد البلاغي، فيعكف الخولي على كتابه «فن القول»، ويُضمِّنه آراءَه وخطَّته في تجديد البلاغة، ويصدر الشايب كتابه «الأسلوب»، ويضَعُ فيه منهجًا كاملاً لبلاغة جديدة، ويُشارِك الزيَّات في القضيَّة، فيدفع إلى الميدان بكتابه «دفاع عن البلاغة»، وفي الجامعة الأمريكية يُلقِي البشري محاضرته: «ثورة على علوم البلاغة» وفي المجمع اللغوي يُلقي د. عبدالرازق محيي الدين بحثَه: «مفاهيم بلاغية» ويكتب الدكتور العماري بحثه «البلاغة العربية وحاجتها إلى التجديد», وتُعقَد الندوات والمحاضرات بين المعنيِّين بالدِّراسات البلاغيَّة، وتُذاع على الهواء، كالندوة التي عُقِدت بين الدكاترة: غنيمي هلال، وبدوي طبانة، وأحمد بدوي.
البلاغة في مصر لم تنضج ولم تحترق
وأكد «أبو مصطفى» إنه في جامعة الأزهر أنشئ قسم خاص بالبلاغة والنقد في كلية اللغة العربية، قام أساتذته بالدعوة إلى تجديد البلاغة وتطويرها، وفي آداب القاهرة والإسكندرية وعين شمس ودار العلوم، وفي كلها ارتفعت الأصوات بضرورة إصلاح البلاغة وتجديدها. كلُّ ذلك أثارَ قضيَّة البلاغة بعد رُكود، وأيقَظها بعد سُبات، وأخَذ العلماء والأدباء وأساتذة البلاغة يُدْلون بآرائهم، ويُعلِنون عن اتِّجاهاتهم في تَطوير البلاغة وتجديدها. كما أكد أنه في الوقت نفسه لن يستطيع دارس البلاغة الحديثة أن يتجاوز د. محمد زكي العشماوي الذي جمع بين الأصالة والتجديد، أو الأستاذ الدكتور حلمي مرزوق الذي وقع الجمال الأدبي أسيرًا له فبين وأوضح مطارحه في الكلام.
مشيرًا إلى أن الباحثين في البلاغة على مستوى العالم يعرفون جيدًا أسماء علماء مصر. كما أن مصر ما زالت ولاّدة وقادرة على أن تنجب العلماء العظام الذين يدركون جيدًا أن البلاغة علم لم ينضج ولم يحترق.
صوالين مصر لعبت دور «الميديا»
وعن دور الصالونات الأدبية في إثراء الحركة الأدبية والثقافية في مصر من عصر الرواد أو الرعيل الأولي الذي أسس لهذه الصوالين لعصرنا الحديث أوضح الدكتور عبدالناصر هلال إنها تعد قناة تواصل بين المبدع والمتلقي, ظهرت في ثوب جديد لملتقى الخلفاء والأمراء في التراث العربي وقال: إن ملتقى سكينة بنت الحسين في منطقة الحجاز والشاعرة ولادة بنت المستكفي في قرطبة ومرورًا بمي زيادة وملك حفني ناصف المعروفة بباحثة البادية تعد من أشهر الصالونات في التراث العربي
كما أنها في العصر الحديث أدت دورًا كبيرًا في تشكيل الثقافة المصرية والعربية، من أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، حيث أسهمت في خلق مناخ ثقافي عميق ساعد على قيام حراك فكري فعال, لعبت دور الميديا, قدمت العديد من القضايا المهمة.
وأشار هلال: إن من أهم الصالونات في العصر الحديث صالون الأديبة مي زيادة، الذي استمرت فعالياته طوال 25 سنة، فكان يعقد كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع في منزلها وغدا ملتقى ثقافيًا للصحافيين والمفكرين. في الوقت نفسه كان صالون عباس محمود العقاد قبلة لمثقفي مصر وكان له الأثر الأكبر في تشكيل الفكر والثقافة في مصر وكان يعقد يوم الجمعة من كل أسبوع.
كما أنه يعد في أيامنا المعاصرة في ظل التواصل الإعلامي والتواصل الاجتماعي عبر الإنترنت من المحاولات الجادة في «صالونات الواقع المعاصر» صالون الدكتور وسيم السيسي، صاحب «صالون المعادي الثقافي»، الذي أسسه عام 1990.
وهنا اختلفت طرق التواصل لعقد اللقاءات الأسبوعية أو الشهرية داخل الصالونات فأحيانًا تتم الدعوة بشأن عقد فعاليات الصالون عن طريق الإعلان عنها في الصحف، إضافة إلى الدعوات الشخصية للمتخصصين الذين يتحدثون في الصالون عندما يكون موضوع الجلسة في مجال تخصصهم. إضافة لأنه يتضمن بعض فقرات الغناء والعزف كنوع من الترفيه، كما تخصَّص استراحات لتبادل النقاش الحر بعيدًا عن موضوع الصالون. رواد صالون السيسي غالبيتهم كوكبة من المفكرين وأساتذة الجامعات والفنانين والأدباء.
نادية لطفي وسعاد حسني في الصوالين
ومن الصالونات التي لقيت تواصلاً وشهدت حراكًا صالون الشاعر والطبيب الدكتور أحمد تيمور الذي أسس عام 1987 أسس في منزله بحي الهرم في محافظة الجيزة، وقد تشكل هذا الصالون بناء على رغبة مجموعة من الأصدقاء بالالتقاء بشكل منتظم. ثم انضمت إليهم كوكبة من المثقفين والشعراء والأدباء والإعلاميين والمفكرين. وحاليا يعقد الصالون في عيادة تيمور بالهرم في أول كل شهر.
كما يعد صالون الدكتور عبدالمنعم تليمة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، من أشهر صالونات القاهرة الثقافية وأقدمها، ويطلق عليه اسم «صالون الخميس» لأنه يعقد كل خميس بمنزل تليمة في حي الدقي بالقاهرة. وبما أنه الوحيد بين زملائه الذي يمتلك منزلاً في القاهرة، صار المنزل مكان تجمع لهم
ويقدم د. تليمة برنامجًا يعلنه على أصدقائه، ومن أشهر رواده الدكتور عبدالحميد يونس والدكتور حسين فوزي والدكتور لويس عوض والفنانة نادية لطفي، كذلك حرصت الفنانة الراحلة سعاد حسني على حضور هذا الصالون لفترة طويلة. وأحيانًا يأتي بعض المفكرين والمثقفين العرب والأجانب خصيصًا لحضور الصالون.
ومن الصالونات التي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي في القاهرة صالون الدكتور محمد حسن عبدالله، أستاذ الأدب والنقد بكلية دار العلوم جامعة الفيوم، الذي أطلق منذ أكثر من 20 سنة في منزله في ضاحية المعادي، ويعقد في الجمعة الأخيرة من كل شهر ويتابع «هلال» يؤكد الدكتور محمد أنه عندما فكر في تأسيس الصالون لم يكن هدفه استنساخ صالون العقاد أو مي زيادة «لأن وقتها كان الناس يذهبون لهذه الصالونات لمجرد رؤية العقاد أو مي زيادة، أما الآن فالناس لا يقبلون كثيرا على الصالون إلا إذا استفادوا منه, لذلك ما كان الهدف البحث عن ضيوف مستهلكين في كل المجالات، بل إظهار نجوم جدد في تخصصاتهم. وبالفعل، أصبحت للصالون مكانة متميزة بين الصالونات الثقافية والأدبية في مصر، وهو يهتم بالشعر كأحد أهم معالم الثقافة العربية».
أما صالون الدكتور حامد طاهر، نائب رئيس جامعة القاهرة سابقا أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، فهو الأحدث إذ أسس عام 2007، إلا أنه اكتسب ثقة كثرة من المثقفين حتى أصبح من أهم صالونات مصر الثقافية وأشهرها وأكثرها انتظامًا في السنوات الأربع الأخيرة.
وفي عام 2017 في 5 فبراير انطلقت أولى فعاليات صالون عبدالناصر هلال الثقافي لنؤكد رغبة في تجاوز ثقافة المؤسسة الراهنة ونشر ثقافة الحوار الحر وتقبل الخلاف في الرأي والعمل على زيادة مساحة التواصل والتعارف والتلاقح الفكري والإبداعي، والعمل على التخلص من التطرف الفكري والبعد عن التزمت والانغلاق والعمل على تهشيم القبح وكسره.
بدايات الأدب المسرحي في مصر
وعن بدايات الحركة المسرحية في مصر كشف الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل «جامعة حلوان» أن مصر بدأت تتعرف على الأدب المسرحي الحديث -تاريخاً ونصوصاً- في أوائل القرن التاسع عشر. حيث إن أقدم إشارة عربية وصلتنا عن المسرح -كانت عن المسرح الذي شيده قادة الحملة الفرنسية في مصر- وكتبها المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي في تاريخه الشهير المعروف بـ»عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، وأرخ إشارته في يوم السبت الموافق 27-12-1800، وقال فيها: «وفيه كمل المكان الذي أنشأه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء، وهو المسمى في لغتهم بالكوميدي. وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليالِ ليلة واحدة، يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل، وذلك بلغتهم. ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة».
أما أول موضوع مسرحي متكامل منشور باللغة العربية في عالمنا العربي، فكان في مصر سنة 1833، وهو ترجمة كتاب «ديوان قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» للمؤلف الفرنسي (ديبنج Depping). وهذا الكتاب ترجمه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، الذي عرّفنا فيه -ولأول مرة- معنى المسرح من خلال شرحه -وليس ترجمته- لكلمة (سبكتاكل) - والمقصود بها المسرح باللغة الفرنسية. كما أن الكتاب به جزء كبير عن تاريخ المسرح الروماني القديم، ولولا ترجمة الطهطاوي له ما كنا عرفنا شيئاً عن بداية ظهور المسرح عالمياً.
ولم يكتف الطهطاوي بذلك فقام في العام التالي 1834، بنشر كتابه المؤلف «الديوان النفيس بإيوان باريس»، المشهور باسم «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز»، وضمّنه تفاصيل مشاهداته للمسرح الفرنسي، المنشورة في الكتاب تحت عنوان (متنزهات مدينة باريس). الجدير بالذكر إن الطهطاوي هو أول من نشر ترجمة لنص مسرحي كامل من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، ونشره في مصر عام 1868، ليكون أول نص مسرحي منشور باللغة العربية في تاريخ مصر بأكملها، وهو نص مسرحية (هيلانة الجميلة).
وأضاف «إسماعيل» إن محمد عثمان جلال تأثر بجهود الطهطاوي في مجال المسرح، فقام بترجمة بعض المسرحيات وتعريبها وتمصيرها، حيث نشرت مجلة (وادي النيل) -في نوفمبر 1870- خبراً عن تعريبه مسرحيتين، هما: «لابادوسيت» و»مزين شاويلة». أما مجلة (روضة المدارس المصرية) عام 1871، فنشرت له فصولاً من كتابه «النكات وباب التياترات»، وهو كتاب لم يكتمل نشره -ويُعدّ مجهولاً حتى الآن- وفيه قام عثمان بترجمة وتمصير مجموعة من المسرحيات الهزلية. والفصول المنشورة في المجلة، عبارة عن صفحة غلاف الكتاب، والمقدمة، وعشر صفحات من مسرحية «الفخ المنصوب للحكيم المغضوب»، وهي تمصير لمسرحية موليير الشهيرة «طبيب رغم أنفه».
وأشار «إسماعيل» إلى أن كل ما سبق عن محمد عثمان جلال، هو من اكتشافاتي البحثية، أما آثاره المسرحية المعروفة، فتتمثل في خمسة كتب، هي مسرحية «الشيخ متلوف» عام 1873، وكتاب «الأربع روايات من نخب التياترات» عام 1890، وهو يجمع أربع مسرحيات هي الشيخ متلوف، والنساء العالمات، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء. والكتاب الثالث «الروايات المفيدة في علم التراجيدة» الذي طبع عام 1893، وجمع فيه ثلاث مسرحيات هي أستير، وأفيجينيا، والإسكندر الأكبر. والكتاب الرابع به مسرحية «الثقلاء» طبع عام 1896. والخامس والأخير به مسرحية «المخدمين» وطبع بعد وفاته في عام 1904.
• فرقة مسرحية
وزاد: في عام 1876 جاءت من لبنان إلى مصر أول فرقة مسرحية عربية، وهي فرقة سليم خليل النقاش، التي عرضت عروضها في الإسكندرية، وكانت مكتبة حبيب غرزوزي -بجانب المسرح- تبيع نصوص المسرحيات المعروضة، ومنها: كتاب «أرزة لبنان» الذي يشتمل على جميع مسرحيات مارون النقاش، وهي: «البخيل»، و»أبو الحسن المغفل»، و»السليط الحسود»، بالإضافة إلى مسرحيات: «عائدة»، و»ميّ وهوراس»، و»أندروماك»، و»شارلمان»، و»هارون الرشيد».
ويُعدّ نجيب الحداد اللبناني، أشهر وأهم مترجم مسرحي في القرن التاسع عشر، وأغلب إنتاجه المسرحي كُتب طُبعت في مصر منذ قدومه إليها عام 1884، وكانت مسرحياته تغزو كافة المسارح والفرق المسرحية في مصر، وأغلبها تم نشره في حياته أو بعد مماته، ناهيك عن نصوصه المخطوطة. وإنتاجه المسرحي المترجم أو المُعرّب، يتمثل في العناوين الآتية: «الرجاء بعد اليأس»، «عمرو بن عدي»، و»سينا»، و»عدل القيصر... وغيرها. ومنذ عامين اكتشفت مخطوطة مسرحية مجهولة لنجيب الحداد عنوانها «المهدي وفتح السودان»، فقمت بتحقيقها ونشرها مع مواد أخرى في كتابي «الثورة المهدية في المسرح المصري»، الذي أصدره مهرجان البقعة المسرحي في السودان.
وقال «إسماعيل» ربما سيلاحظ القارئ أن الأدب المسرحي في مصر بدأ بترجمة النصوص المسرحية أو تعريبها أو تمصيرها أو اقتباسها، دون أن يقترب من تأليفها؟! وهنا لا بد لي أن أذكر تجربة إسماعيل عاصم المحامي, بوصفه من أوائل المصريين الذين قاموا بتأليف النصوص المسرحية في القرن التاسع عشر. وأول مسرحية ألفها كانت بعنوان «هناء المحبين» عام 1893، ثم ألف مسرحية «حسن العواقب» عام 1894، وأخيراً ألف مسرحية «صدق الإخاء» عام 1895. وهذه المسرحيات المؤلفة مكتوبة بأسلوب الصنعة اللفظية -وهو أسلوب الكتابة في هذه الفترة- حيث انتشار السجع وتطعيم النثر بمقطوعات شعرية، والاقتباس من القرآن والأحاديث النبوية نصاً أو معنى، ناهيك عن اعتماد المؤلف في تأليفه المسرحية على بعض أحداث قصص ألف ليلة وليلة. وإذا كان إسماعيل عاصم يُعدّ من أوائل المؤلفين المسرحيين, فإن السيدة لطيفة عبدالله بطلة فرقة (جوق السرور) المسرحية, تُعدّ أول مؤلفة مسرحية عربية بتأليفها مسرحية «الملكة بلقيس».
أحد مشائخ الأزهر تبنى مشروعًا مسرحيًا
وطالما نحن بصدد حركة التأليف المسرحي، فيجب علينا أن نذكر تجربة فريدة، قام بها أحد مشايخ الأزهر الشريف، وهو الشيخ محمد عبد المطلب (1871 – 1931)، عندما تبنى مشروعاً مسرحياً أدبياً، تمثل في تأليف مجموعة مسرحيات عن شخصيات أدبية تراثية، أو أحداث في تاريخ الأدب العربي، ومن هذه المسرحيات «ليلى العفيفة»، و»مصرع الزباء»، و»حياة امرئ القيس بن حجر»، و»حرب البسوس».
التحولات السينمائية والمسرحية
في الفن المصري
ثمة تغيرات هائلة اعترت سينما ومسرح القاهرة. إنها مصر، مصر التي شهدت أول عرض سينمائي في البلاد العربية كافة، وذلك بالتزامن وبعد أيام قلائل من عرض أول فيلم سينمائي تجاري على مستوى العالم في التاريخ السينمائي. فقد دشنت باريس عرض الفيلم الأول في العالم «بجراند كافيه» الكائن بشارع كابوسين، كان الفيلم للأخوين «لوميير» وذلك في ديسمبر 1895، وبعد ذلك بأيام تم تقديم أول عرض بالأسكندرية بمقهى «زواني» في يناير 1896 ثم في القاهرة 28 يناير 1896.
وهنا يؤكد المسرحي محمد رفعت يونس أن القاهرة استقبلت مارون النقاش القادم من الشام 1948 ليدشن هو الآخر مسرحه بالمحروسة، بعد ما تعرفت على فن المسرح في قالبه الغربي إثر الاحتكاك الثقافي بالجاليات الفرنسية 1798 : 1801، وفي قالبه الشعبي عن طريق الفرق الجوالة والحواة وفن الأراجوز، تلك الأشكال التي ازدهرت في عصر المماليك. ليمثل قدوم النقاش البداية الحديثة لاستمرار المسرح المصري حتى الآن.
وأضاف: إن تلك البداية الباكرة للسينما، وما صاحبها من شغف بهذا الفن الجديد المبهر، والتطورات التقنية البسيطة والمتسارعة، جعلت جودة المنتج (الفيلم السينمائي) نصب أعين صناع الفن السابع في تلك الفترة. فكان ظهور أول فيلم مصري ناطق عام 1932، وهو فيلم (أولاد الذوات) بطولة يوسف وهبي وأمينة رزق، ثم تلاه محاولات تلوين الأفلام - تلوين أغنية «يوم الاثنين» لمحمد عبدالوهاب من فيلم لست ملاكا 1946، ثم قام استوديو مصر بإنتاج أول فيلم ملون بالكامل عام 1952 وهو فيلم (بابا عريس) بطولة نعيمة عاكف وشكري سرحان. ومع هذا الاهتمام ومحاولات التطوير كانت الأفلام في غالبيتها جادة تتأرجح بين الكوميديا الراقية والرومانسية والاستعراضات. واستدرك «يونس» لكن الأمر قد اختلف نوعا ما في الستينيات وذلك مع تغير نظام الحكم وتوجهات الدولة والتغييرات الاجتماعية العنيفة التي أعادت تشكيل الطبقات الاجتماعية في مصر. فتناولت السينما تيمة الفقر وأشادت بمزايا الاشتراكية مثل فيلم (اللص والكلاب)، كما تناولت موضوعات الديموقراطية والارتباط بالأرض والمقاومة (فيلم جفت الأمطار)، كما هاجمت نماذج الفساد والانتهازية (فيلم ميرامار). لتختتم السبعينيات تلك المرحلة بتناول حرب أكتوبر (حتى آخر العمر -الوفاء العظيم- أبناء الصمت ...إلخ) وسياسة الانفتاح (على من نطلق الرصاص).
منوهًا: إنه برغم جدية التيار الواقعي في سينما الثمانينيات على يد عاطف الطيب ورأفت الميهي وغيرهم، إلا أن تلك الفترة أيضا شهدت ظهورًا وتزايدًا هائجًا لسينما المقاولات التي تسعى لتعبئة شرائط فيديو فقط لتسوقها لدول الخليج. وتأتي التسعينيات بموجة الكوميديا التي افتتحها فيلم (إسماعلية رايح جاي) لتستمر حتى الآن، ويسيطر على الساحة نجوم الكوميديا محمد هنيدي ومحمد سعد وهاني رمزي وأحمد حلمي، حتى ظهور الفيلم الشعبي للنجم محمد رمضان، مع انحدار ملحوظ في مستوى الكوميديا والقيمة الفنية للفيلم.
وعن مرحلة مسرح نجوم القطاع الخاص أوضح «يونس» بأنه قد ازدهر مسرح نجوم القطاع الخاص لكل من النجوم (عادل إمام ومحمد صبحي وسمير غانم ومحمد نجم) في تسعينيات القرن الفائت، مع اهتمامهم بالكوميديا المفرطة بهدف الكسب السياحي، عدا صبحي الذي اهتم نوعًا ما بالجرعة الفكرية. غير أن هناك مسرح الأقاليم بقصور الثقافة الذي تمتد عراقته منذ الستينيات ويستمر حتى الآن في تقديم أروع أعمال المسرح العالمي والعربي والمصري بوجود فنانين هواة موهوبين يعملون دون مقابل يذكر، في الوقت الذي يتأرجح فيه مسرح الدولة (البيت الفني للمسرح) بين شباك التذاكر والقيمة الفنية الراقية. ليفتح مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي النوافذ والأبواب للتلاقح الثقافي مع المسرح العالمي على مدار عشرين عام لكنه توقف عام 2010 بسبب ثورة يناير 2011 ليعود الظهور ثانية في 2016 بثوب جديد (مهرجان القاهرة الدولي للمسرح العالمي والتجريبي). وأخيرًا تعاود ظاهرة المسرح التلفزيوني في الظهور بعد نشأتها الأولى في الستينيات بتلفزيون الدولة، ولكن هذه المرة في القنوات الخاصة وبفكر مختلف يعلي من قيمة الكسب التجاري فقط، لذا سادت فيها الكوميديا المبتذلة وتدني المستوى الفني دون قيمة فكرية تذكر، ومنها تجارب مسرح مصر وتياترو مصر ومسرح النهار الذي لم يستمر طويلا.
وختم «يونس» هكذا اعترت التغيرات السينما والمسرح على مدار تاريخهما في مصر، لكن تبقى فترة الستينيات فترة ازدهار للفنيين، مع استمرار الازدهار السينمائي نوعا ما عن نظيره المسرحي الذي هجره الجمهور.