بالعمر رحلة واحدة طويلة كانت أو قصيرة وأحداثها تمضي كذكرى عابرة بسرعة شئت أم أبيت بأفراحها وأتراحها ولا يبق إلا أوراق تشهد حضورك وغيابك، وبينهما سطور وفي كل سطر فواصل تنتهي فيها حكاية وتبدأ أخرى هكذا هي الدنيا بكل الألوان الممزوجة بالبهجة والألم.
في ظلمة الليل الحالكة وسوادها الموحش حين لا تكون هناك إضاءة ولو شمعة بسيطة في آخر عمرها لا تكاد تبين وسط سكون الليل وهدوئه المرتقب والمفاجئ لك بكل جديد، وأنت في مكان مقفر لا أحد يؤنس تلك الوحشة المفردة وقد أضاعك أصدقاؤك ولا تستطيع أن تعثر على أحدهم، لأنّ الذي بينك وبينهم مفاوز وصحارى وطرقا وعرة وقد تخاطفتك وتجاذبتك كل الأفكار بخيرها وشرها وراودتك النفس بمخاطر جمّة لا تخطر على قلب بشر، ثم سكنت جسدك أنواع الأسقام بأشكالها المختلفة فكنت طريح العلل والأمراض كلها:
ومن جسدي لم يترك السُّقمُ شعرةً
فما فوقها إلا وفيها له فعلُ
حتى وإن كان المتنبي قد عنى الحب وما يفعله فالسُّقم وإن تعددت أسبابه فهو واحد وما تلك إلا مما أصابك من أوجاع الوحدة والانعزال وسوء التغذية والعذاب الممض.
حين تركن في زاوية من زوايا غرفة يتيمة وحيداً تكون الأنفاس فيها معدودة وقد بلغتْ من الحرارة مبلغاً كالمحموم الذي لا يرجى برؤه فتدخر منها ما يغنيك فيما بعد حين تحتاج إليها في أوقات الضيق وتتضاءل نسبتها كلما ظننت أن هناك من يقاسمك المكان وإن كان رحباً ! ولكن لا يبدو أن ظنك حقيقياً لأنه الرعب الذي سكن قلبك ضغط على أنفاسك فأخذ يبتزها منك ويتصدق عليك بالحياة، وهذا ما يسمّى بالموت البطيء ! الذي ينذر صاحبه بالنهاية قبل الوداع الأخير، هكذا كان دوستويفسكي حين قرروا إعدامه ورأى المقصلة أمامه بشفرتها الحادة التي تلمع بالضحى كسيف هندوانيّ مصقول حتى إذا قدّموه للتنفيذ وقد يبس حلقه كل اليبس وارتعدت فرائصة وخارت قواه جاء الأمر بالتوقف فإذا عروقه قد استرجعت الحياة بسريان الدماء التي جمدت فيها واستعاد بعضاً من قواه حتى تساعده على حمل جسمه المنهك، ولتعلم أنه أودع السجن بتهمة بسيطة كان جزاؤها حياة مرّة وعذابا دائما مع اللصوص والسفّاحين والقتلة تلك كانت رحلة الألم في أصقاع سيبيريا المظلمة حيث المنفى القسري لكل من تسول له نفسه مخالفة الطغمة الفاسدة في النظام الفاشستي مما حدا بالإسكندر الثاني إمبراطور روسيا عندما قرأ (ذكريات من منزل الأموات) أن تخضل لحيته من الدموع على أحداثها المبكية والتراجيديا الحزينة التي رافقت تلك الرواية في رحلتها حتى النهاية.
عاش دوستويفسكي حياة الزهو والغرور بعد روايته (الجريمة والعقاب) الذي حققت حلمه من الشهرة، ولكن العذاب الذي ذاقه فيما بعد جعله ينتكس رأساً على عقب حتى كتب (ذكريات من منزل الأموات) وهي كسيرة ذاتية مفجعة تحكي قصص السجون في سيبيريا وكيف يموت الناس فيها قسراً دون اختيار منهم، وقد كتب ذلك عبر رسائل لأخيه بعبارات حزينة مؤلمة، ولعلنا نرى تلك الرواية تتجدد بحيث لم ينته مسلسله بعد في سجون الدكتاتوريين اليوم الذين يتشدقون بالديمقراطية وسجونهم ملأى بالمعذبين حتى بعد دوستويفسكي بقرنين من الزمان، هذه الرواية ذائعة الصيت مهدت كثيراً فيما بعد لقصص السجون والتعذيب، والذي أصبح أدباً مستقلاً في عالم الرواية في العالم كله حتى قال عنها وعن دوستوفسكي ليو تولستوي أعظم الروائيين الروس حين أرسل لأحد أصدقائه ستراخوف: (كنتُ أشعر في هذه الأيام بضيق شديد فتناولت كتاب ذكريات منزل الأموات فأعدت قراءته، كنت قد نسيت كثيراً منه، فلما أعدت قراءته أيقنت أن ليس في الأدب الجديد كله كتاب واحد يفوقه حتى ولا كتب بوشكين...).
** **
- زياد السبيت