فقدتْ اللغة العربية مكانتها الريادية، لصالح لغتي المستعمر في العصر الحديث: اللغة الإنجليزية،واللغة الفرنسية. ولقد بدأ هذا حين همز فيها المستشرقون ولمزوا، فقالوا عنها إنها لغة العصور الوسطى، وهكذا بات الحكم عليها يشبه الحكم على اللغة اللاتينية مثلا.
لقد عمدَ المستشرقون إلى ترجمة ما يستطيعون ترجمته من اللغة العربية إلى لغاتهم، في أزمنة مختلفة، فلم يعدْ بهم حاجة كبيرة إلى اللغة العربية، التي تحتوي ملايين المفردات وآلاف الجذور ورفدتْ لغات الأرض بآلاف المفردات التي يعرفها كلُّ من درس لغة الآخر. وحين جاء المستعمر إلى الوطن العربي، لم يكنْ كمثل استعمار الدولة العثمانية التي رغم وجودها لقرون في أوطان العرب، فلم تتعرض للغة العربية، والدليل على ذلك أنّ اللغة التركية لم تنتشر في أوساط العرب رغم بقاء الترك قرونا عدّة في بلادهم، ومردُ ذلك يعود إلى اختلاف عقلية المستعمر الغربي عن طريقة الدولة العثمانية التي لم تسعْ كثيرا لنشر لغتها التركية إلا في حدودٍ ضيقة وفي نطاق زمانيٍّ ومكانيٍّ محدود.
أما المستعمر الغربي فقد كان ينشر لغته في مستعمراته على قدمٍ وساق، وربط تعلم هذه اللغة بكل وسائل الحياة تقريبا في مستعمراته؛ حتى باتت هذه اللغة هي اللغة الأولى في بعض مناطق العالم، واللغة الثانية في الوطن العربي. ففي المشرق العربي تجد اللغة الإنجليزية هي اللغة الثانية، بينما نجد اللغة الفرنسية هي اللغة الثانية في المغرب العربي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد ورث الغرب السيطرة على العالم وبات المسيطر على إعلامه، وتقدّمه العلمي،وهو عرّاب حضارته والمسيطر عليها. وكتب كُلَّ ذلك بلغته بالطبع؛ فكان حتما على شعوب الأرض تعلم لغة الغرب، الإنجليزية كلغة أولا والفرنسية كلغة ثانية، وهذا يعني انتشار ثقافة وحضارة هاتين اللغتين في سائر المعمورة، ناهيك عن الوطن العربي، فألقى ذلك بظلاله على شعوب الأرض ومنها الشعوب العربية. والحقيقة أنّ هذه الطامة قد أصابت كافة شعوب الأرض إلا ما ندُر مثل الصين، والمعسكر الشرقي الذي تزعمه الاتحاد السوفيتي سابقا (وورثته روسيا حاليا). ولذا، بات تعلُّم لغة الآخر، شيئا من ضروريات تقدّم الشعوب، وتعلمتْ الشعوب العربية هاتين اللغتين بعد انتهاء حقبة الاستعمار مباشرة. وبعد عقود من جلاء المستعمر، ومن تعلم هاتين اللغتين للأجيال العربية، بات أثر تعلمهما واضحا على هذه الأجيال، التي ضعفتْ لغتها الأم (اللغة العربية)، وباتتْ هجينة تسخدم لغة الآخر، أكثر من استخدامها للغتها الأم، وكانت الحجة في تعلمهما هي إنها لغة العلم، وأسباب أخرى، لكنّ هذه الحجة كانت هي الأقوى. والحقيقة أنّ الأجيال قد تعلّمت بواسطة لغة الآخر العلم والمعرفة وتواصلت مع العالم أجمع مضطرة بواسطة لغة الآخر. لكنّ الثمن كان باهضا، والتأثير بعد خمسة عقود كان مخيفا؛ يعرفه علماء الاجتماع جيدا، فلقد جلبنا مع لغة الآخر حضارته وعاداته وتقاليده، في مأكلنا ومشربنا وملبسنا، وجاءتْ وسائل التواصل الاجتماعي لتجعل من تعلم لغة الآخر أمرا حتميا، ومن التأثر بالحضارة الغربية شيئا أكيدا، وبات العربي يتحدّث لغة هجينة مليئة بمفردات لغة الآخر التي لا تتجاوز ثروتها اللغوية عُشر ثروة لغتنا العربية. ولكم أنْ تتصوروا أنّ العربي سوف يكون بعد عقود نسخة مماثلة من المواطن الفلبيني على سبيل المثال، الذي لا يتحدّث لغته الفلبينية إلا أقل من 21% يوميا.
والحقيقة أنّ الأمة التي تعتزُ بلغتها سقطتْ في براثن القرار السيئ منذ رحيل المستعمر من أراضيها؛ فلم تتحرر منه كلية وقد سمحت بتعلّم لغته، بل وكان تعلمها يزاحم اللغة العربية كثيرا مع الأسف، وساهم العرب المتفرنجون المبهورون بالحضارة الغربية في الترويج لتعلم لغة الآخر (وخاصة اللغة الإنجليزية، وهي ما أقصده هنا بالدرجة الأولى ثم الفرنسية بالدرجة الثانية كما أسلفت)، ولم ينتبهوا، إمّا لسوء تقدير منهم، أو لتبعية عمياء للغرب في خطورة تعلم لغة المستعمر. وحدث ما حدث من خسارة لمكانة اللغة العربية في العلم وفي الحضارة الحديثة بالذات. وهذا لم يحدث مع من يعتزُّ بلغته أبدا؛ فلم تتأثر فرنسا باللغة الإنجليزية رغم سطوتها، فألزمتْ قنواتها على بث الأفلام التي باللغة الإنجليزية مترجمة إلى الفرنسية وفي أضيق نطاق، ووصل النقاش ذروته في قصر الإليزية في عهد الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، ثم أعيد الموضوع إلى الإليزية ثانية في عهد فرانسوا ميتران، فوضعت القيود القوية التي تضمن عدم سيطرة اللغة الإنجليزية على الحضارة الفرنسية. واستعانت الصين واليابان بالترجمة لكي تضمن عدم هيمنة حضارة الآخر على شعوبها، بينما لم يصل تأثيرها القوي على اللغة الروسية كما هو معروف.
والآن! كيف لنا أن نحافظ على شعوبنا من سطوة لغة الآخر وهي تغزونا ابتداء من المدرسة وليس انتهاء بالشارع والتليفزيون ووسائل التواصل، بل غزتنا برّا وبحرا وجوا ؟
ومن المؤسف أنّ تهافت العرب على لغة الآخر حدث في فترات ضعف، وفي فترات همز ولمز في اللغة العربية، فبتُ تسمع من يقول هي لغة صعبة ومعقدة، وبتُ تسمع من يتفاخر بإجادته لغة الآخر، بينما لا يحسن قراءة صفحة واحدة باللغة العربية، وإذا ما تحدّث باللغة العربية تمنيت لو لم ينبس ببنت شفة!
لقد قرأتُ وسمعتُ كثيرا وكثيرا عن وسائل حماية اللغة العربية في أيام اللغة العربية وفي ندواتٍ وملتقيات، لكنها مع الأسف وسائل غير كافية وغير ناجعة والدليل هو ميل كفة الميزان لصالح لغة الآخر، فهل نستسلمُ ونحن نشاهد لغتنا العربية تضيق وتضيق، حتى باتت لغة كلاسيكية متحجرة ؟.
وقد يقول قائلٌ: إنك تُبالغ فهي لغة القران التي تكفّل الله بحفظه، ويقول آخر: لا زلنا نتحدّث بها ونكتبها وندرّسها في مدارسنا وجامعاتنا ونستخدمها في تعاملاتنا، وأنا أقول هذا صحيح، ولكنّ اللغة التي نستخدمها تأثرت بلغة الآخر وصارت لغة هجينة، خليط بين العربية ولغة الآخر.
وإذا ما سقطت لغتنا بكنوزها وثروتها، وصدّقت الأجيال مقولة ضعف إمكانات لغتها ، فستسقط اللغة العربية حتما. ولكم أن تقارنوا بين ما حدث للغات الأرض التي تنازلت عن لغتها لصالح لغة الآخر، وبين ما سيحدث للغة العربية.
فلن تستطيع أجيالنا القادمة الاستفادة من هذه الثروية اللغوية، وستنفصل عن تراثها، وحضارتها، وقد تلجأ للترجمة من لغة الآخر إلى العربية. فطلابي الآن، يعرفون إجابات أسئلتي في الاختبار؛ لكنهم لا يجيدون صياغة إجاباتهم بلغة عربية رصينة ومقبولة. وكيف سيكون الحال بعد عقود قليلة قادمة ؟
إننا أبناء هذه اللغة، وإذا ما فرّط ابن في أمّه فلا خير فيه، وسيكون مثل النبتة المجتثة التي لا أرض لها.
** **
- د. سعد الثقفي