تتوالى روايات أمين معلوف على ذات المسرح المتأرجح بين الشرق والغرب، ففي «صخرة طانيوس» التي تكاد تكون ملحمة لبنانية خالصة تحكي واقع الحياة والسياسة في جبل لبنان، نجدها تتقاطع مع بدايات التوغل الغربي ثقافياً وسياسياً، وصراع النفوذ العبثي بين الإمبراطورية العثمانية العجوز وطموحات الألباني محمد علي المهيمن على مقاليد الأمور في مصر.
وفي رواية «سلالم الشرق» أو «موانئ المشرق» حالة اغتراب واغترابٍ معاكس، معاناة الهجرة إلى الغرب بكل ما فيها من مكاسب وفواقد تتحول إلى معاناةٍ أقسي عند العودة إلى المشرق. يلفظ المشرق أبناءه في الغرب ليعيشوا نكراتٍ مهما فعلوا في اعتناق قضايا ذلك الغرب، ثم تستقبلهم موانئ المشرق ليعيشوا تعقيداته التي صنعها الغرب، ليتحولوا بعدها إلى أشلاء أو وكلاء. ويتضح مجدداً أن الغرب لم يعد ذلك الخصم السابق والمعادل الموضوعي للشرق، وإنما أصبح هو الناظم الحاسم لكليهما.
أما في رواية «حدائق النور» عن «ماني»، الرسول والمصلح عند البعض والمهرطق والضال عند البعض الآخر، فإن معلوف يعطي صورة زاهية عن هذا الذي كانت «مانويته» هدفاً لسهام علماء الدين ومؤرخي العقائد عبر القرون. وقد أبرزت الرواية أن دعوة هذا الرجل البابلي، في القرن الثالث الميلادي، قد اكتسحت بلاد فارس ووصلت إلى بلاط الإمبراطورية الساسانية الناهضة، التي احتضنت الدعوة حيناً وناصبتها العداء أحياناً أخرى، ثم وقع «ماني» بين حنق الإمبراطور ومكائد رجال الدين المعارضين ليتم القضاء عليه أمام أتباعه بيد رجال البلاط.
لكن «ماني» ربما لم يكن مجرد صاحب رسالة التسامح والأخوّة، وثنائية الخير والشر، والنور والظلمة، وإنما كان رسول المسيحية المقبولة فارسياً، التي مزجت بين المسيحية السائدة دولياً -آنذاك- وبين بعض أصول الديانة الفارسية العتيقة، والتي احتضنها الإمبراطور وتبنّاها في البداية ليستخدمها وقوداً في صراعه مع روما وبيزنطة. وكأنما فارس بعصبيتها القومية الطاغية لا تقبل ديناً لا يتمازج أو يتعانق مع عقائدها القومية الراسخة. وهو ما حدث لاحقاً مع العقيدة التي قضت على إمبراطوريتها الساسانية، في القرن السابع الميلادي، واستوعبتها أرضاً ولغةً وثقافةً وبشراً، حيث تمكنت، لاحقاً، من الالتفاف على هذه العقيدة لتخلق بديلاً موازياً ملقّحاً ببعض ملامح إرث ديانتها القديمة ومفعماً بالروح الفارسية.
يتميز معلوف غالباً بالاستقصاء والبحث التاريخي، رغم أن رواياته ليست مجرد سردٍ تاريخي، ففيها من الخيال أكثر مما فيها من الواقع، لكن معلوف، أيضاً، يبتسر الوقائع وتخونه طبيعته المستقصية أحياناً، فعندما تعرّض مثلاً للخلاف المذهبي الرئيسي في الإسلام قال إنه لا يعود لأسباب لاهوتية وإنما إلى مجرد «نزاع داخل أسرة النبي». جاء ذلك في كتابه عن الحروب الصليبية، وفي كتابه الآخر «اختلال العالم» ذهب إلى تفصيلٍ أكثر، حيث أشار إلى أنه وليد أسبابٍ أُسروية، وأنه عند وفاة النبي بايع قسمٌ من المؤمنين ابن عمه الشاب علياً، إلا أن مناوئيه أفلحوا ثلاث مرات في تعيين خلفاء من خصومه. وإذا كان يمكن قبول بعض جوانب هذا التصور في العهد الأول للإسلام باعتباره خلافاً سياسياً لا أسروياً، فإنه لا يمكن قبوله، بهذا التبسيط، بعد سرد معلوف لأحداث تاريخية مثقلة بالحمولة الأيديولوجية.
وإذا كان معلوف رسم صورة مروِّعة لزعيم الحشاشين «حسن الصبّاح» وأعطي مسوِّغاً أيديولوجياً لهذا النهج بتحوله من العقيدة الإمامية إلى الإسماعيلية، المنبثقة تحديداً من صراعات ورثة العرش الفاطمي بمصر، والتي تنسجم مع روحه القومية. فإن كاتباً آخر هو الروائي السوري عبدالناصر العايد قد ذهب إلى أبعد من ذلك في روايته «سيد الهاوما»، حيث يري أن حسن الصبّاح قد تحول إلى «الزرادشتية»، وهي الديانة الفارسية القومية، وذلك بتأثير من والده. وهو ما يعطي معنًى أعمق لنهجه الإرهابي ضد كلٍّ من الثقافة والسلطة السائدتين اللتين يري فيهما انتهاكاً قومياً لأرضه وثقافته.
يلمس القارئ لروايات معلوف قلقاً ملحوظاً تجاه الهوية أو الهويات، وانشغالاً ملحوظاً بتكويناتها، بما يتجاوز مجرد الشغف بتقاطعات الأمم واللغات والثقافات والأديان. ويمكن أن نجد مصداق ذلك في كتبه الفكرية، وعلى الأخص كتابا «الهويّات القاتلة» و»اختلال العالم»، حيث يستعرض بإسهاب انفجار الهويات في الحقبة المعاصرة، وعلى الأخص في أعقاب انفراط عقد بعض الأنظمة الشمولية في العالم. وبقدر ما يدافع عن هويات مستضعَفة ومهمشة أمام طغيان أو عدوانية هويات شمولية أو متسلطة، فإنه يدعو أيضاً إلى مقاومة الانغلاق أو تعظيم جوانب التمايز عن الآخر لدي هذه الهويات الصغري. لكنه في كلا الكتابين يتطلع إلى هوية كونية مشتركة وأن يكن بتدرّج لا يلغي بعض الجوانب التي تساهم في التماسك الداخلي للمجتمعات. ورغم أنه لا يخفي ريبته من العولمة التي ترعاها قوي مهيمنة، فإنه يفضل التركيز على الجانب الإيجابي منها، والمتمثل في التقدم المتصاعد للإنجازات البشرية، بدلاً من التوجس الذي لا يجدي.
يستعرض معلوف ملامح الاختلال في بنية العلاقات الدولية ولا يخفي تشاؤمه من مصير العالم في ظل تغوّل مصالح قوي مهيمنة واستفراد قطبٍ واحد بمقدّرات هذا الكوكب، لكنه يجعل الأمل مُشرعاً للأغلبية التي يُفترض أن تجترح حلولاً توازي التحديات التي تهدد هذا المصير.
لم يكتب معلوف عن الهويات بلغةٍ ثقافية باردة، وإنما بروحٍ عاطفية صادقة وحميمية، تكشف عن انشغالٍ مزدوج بهذا الموضوع، فبقدر ما يعنيه القلق الكوني تجاه واقع الهويات ومصير العالم، فإنه يستبطن هوية مركّبةً قلقة عاشت مصائر مختلفة، ولا تزال في اغترابها عرضة لمصائر غير محسوبة.
ما الذي يستهدفه معلوف في كل أعماله؟ ما الذي تقوله رواياته بلغتها غير المباشرة؟... لعله كان يحاول شرقنة الغرب، أو ربما غربنة الشرق، أما المؤكد فإنه سلط الضوء على العديد من المسارب والشعاب بينهما، ولقد تدفقت فيها الكثير من المياه والوحول، والكثير أيضاً من الدماء والسموم. وفي حين أنه لا يبدو يائساً ولا مبتهجاً، فهو حتماً قد أدرك مثل كثيرين قبله وبعده أن الشرق شرق والغرب غرب وما بينهما أمورٌ مشتبِهة لا متشابهة.
وعلي أي حال فإن معلوف قد اتّخذ له أخيراً مقعداً على ضفاف نهر السين في مجمع الخالدين، وهو مقعد لا يترك صاحبَه ولا صاحبه يتركه، وإن يكن يتوشح في بعض الأماسي القارسة وشاح الشرق، وربما يستدفئ بناره.
** **
- عبدالرحمن الصالح