إن أول ما يقفز إلى الذهن حين يمر ذكر غرناطة هو -غالبًا- حمراؤها الممتدة على قمة تل السبيكة، حيث التاريخ والفن مجتمعين يحدوان زوار المدينة لرؤية آخر معاقل العرب في شبه الجزيرة الإيبيرية، وخلاصة العبقرية الأندلسية في الفن والعمارة. وحين يهم الزائر بالخروج من البلدة تستوقفه أسماء مواضع أخرى كالمدرسة اليوسفية، وقصر شنيل، ودار الحرة...، وهي محطات جديرة بالإطراء، ولعلي أعود لأخص كل موضع منها بمقالة تعيد قراءتها على نحو أكثر علمية، بعيدًا عن هذر الخطابات الأدبية التي لا توخى جديدًا يذكر.
أما مح هذا المقال والدافع لتحريره فهو أمر عظم في نفسي وأردت إشراك القارئين العرب فيه، وزوار غرناطة على وجه التحديد؛ فهناك آثار مهمة منزوية في أركان المدينة، لا تبلغها أقدام كثير من قاصدي المدينة وعشاق التاريخ والآثار، بل تغيب عن كثير من أصحاب التقارير وهواة البرامج المصورة الذين ربما اجترأوا واجتزأوا، وكان خطأهم أكثر من صوابهم.
منذ وقت ليس بالبعيد ذهبت بصحبة نخبة من أساتذة جامعة غرناطة وعدد من الباحثين والمهتمين، في زيارة موجهة صحبنا فيها مرشد من أبرز أساتذة التراث في المدرسة العربية بغرناطة.
الزيارة شملت عددًا من الأماكن الأثرية، تعود لعصر ملوك بني الأحمر ومرحلة الموريسكيين، توزعت في المدينة على مسافات مختلفة. بدأنا رحلتنا بالتعريج على عدد من البيوت الموريسكية التي تقع في أسفل حي البيازين المواجه لقصر الحمراء من جهة الشمال، يفصلها عن نهر حدرة وواديه زقاق ضيق وشهير يسمى «ممر المحزونين» وهو اسم تفشى الخطأ في علة تسميته، ولعلنا نعود إليه بالحديث المفصل.
عبرنا زنقة تصاعد صوب حي البيازين تسمى «فرن الذهب»، وهناك بيوت ثلاثة تعود لمرحلة بني الأحمر وعهد الموريسكيين، ولسوء الحظ لم نتمكن من دخول الأولين منها، كونهما مساكن خاصة توارثتها عائلات منذ ذلك الزمن، واكتفي مرشدنا بالإشارة من الخارج لمحتوياتهما وأبوابهما الخارجية وأقواسهما ذات الطراز الأندلسي في العمارة والنقش. بعد ذلك ولجنا إلى المنزل الثالث، وهو الذي يحمل اسم الشارع «فرن الذهب»، وهي دار كبيرة حولتها بلدية غرناطة لقاعة احتفالات، وفيها تمثل الطراز الأندلسي، حيث تتوسطها بركة ماء كالتي في قصر قمارش من الحمراء. تتكون في الأساس من طابق واحد أضيف إليه آخر في مرحلة الموريسكيين، وعلى أروقته يمكن رؤية بعض النقوش العربية ذات العبارات الدينية مثل: «الملك لله وحده، و«العزة لله»، كما لا يصعب استنتاج أن بانيه/مالكه الأصلي كان من تجار البلدة، أو من الطبقة المخملية وليس من الدهماء.
يجدر بالذكر، وهو جلي في بعض تلك المنازل، أنه في حقبة قمع الموريسكيين أكرهوا على ترك أبواب منازلهم الرئيسة مفتوحة على مصراعيها ليرى الرقيب ما بداخلها مباشرة، لدرجة فرض مدخل يتيح ذلك حتى لو لم يكن هو المعتاد. هذا التدبير جرى اتخاذه عطفًا على سلوك بعض الموريسكيين حينما كانوا مدفوعين إلى الكنائس لإتمام مراسم الزواج على الطريقة المسيحية، ثم يعودون إلى منازلهم ليحتفلوا بزواجهم على الطريقة الإسلامية.
** **
- د. صالح عيظة الزهراني