سلمان بن محمد العُمري
الشريعة الإسلامية جعلت الإنسان هو هدف الحضارة، وصانعها في الوقت ذاته، وكفلت لكل إنسان كرامته وحتى الفقير ما يحمي إنسانيته، ويقيها من ذل السؤال ووجع العوز والحاجة، وذلك من خلال أوامر وتكاليف شرعية تجعل لهذا الفقير حقاً معلوماً واجباً في أموال الأغنياء والموسرين التي أنعم الله عليهم بها، أو سنناً مستحبة مندوب إليها، مثل الصدقات الجارية.
والوقف أحد أبرز هذه السنن وأعظمها أجراً للواقف، وأكثرها نفعاً للموقوف عليهم، وتنبع مكانة الوقف من أنه عمل اختياري تطوعي يقدم عليه الواقف ابتغاء مرضاة الله، وهو عمل لا ينقطع ثوابه بوفاة صاحبه؛ لأنّ نفعه يظل جارياً، ومن جوانب أهمية الوقف أيضاً أنه يحفظ للمعوزين من أبناء المسلمين ماء الوجه، فهم لا يسألون لسد حاجاتهم العاجلة، ولا يخافون انقطاعه مستقبلاً، هذا فضلاً عن تنوع مجالات الوقف بتنوع قناعات واهتمامات الواقفين، ما بين رعاية اليتامى والمعوزين، أو مساعدة طلبة العلم، أو بناء المساجد، أو المستشفيات وغيرها، ولأن القناعات والحاجات تختلف من عصر لعصر، يكتسب الوقف أهمية مضاعفة بفعل قدرته على مواكبة المتغيرات وتباين الاحتياجات زماناً ومكاناً.
أولاً - خصائص نظام الوقف في الإسلام:
أ) شمول هذا النظام واتِّساعه:
إنَّ من يطالع ما كتبه الأئمة من فقهائنا حول الوقف وأحكامه وغاياته؛ يرى الأبواب المتعددة، والمسائل ذوات العدد المتكاثرة، والأمور الدقيقة والتفصيلية التي تناولوها؛ مما يدل على شمول نظام الوقف واتساعه جداً؛ ولا يقتصر أداء نظام الوقف في الإسلام على المسلم وحده، بل توجد أوقاف عامة تشمل المسلم وغيره، كما وجدت أوقاف خصصت في القديم والحديث للإنفاق على غير المسلمين، وإصلاح معاشهم وإعانتهم، وتأليف قلوبهم ودعوتهم، وقد تعرَّض الفقهاء لمسائل من ذلك، وخصصوا لها حيّزاً في كتبهم المتخصصة؛ مما يدل على عناية الإسلام بغير المسلمين من جهة الوقف وأحكامه وتشريعاته.
ب) ثباته واستمراره، وعدم انقطاعه:
يمتاز نظام الوقف الإسلامي بثباته واستقراره، ودوامه واستمراره، وعدم انقطاعه، والوقف الأصل فيه طلب ثباته واستقراره ودوامه، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له».
والوقف أدوم الصدقات؛ لأن الأصل فيه البقاء، وهو «تحبيس الأصل وبقاؤه مع تسبيل الثمرة والانتفاع بالغلّة».
وما زال الفقهاء يُوصون نُظَّارَ الأوقاف بالمحافظة على ما وُلُّوا؛ حتى يدوم ويثبت ويستمر، ولا ينقطع.
واختلفوا في نقل الوقف من موضع إلى آخر، أو تغييره بخيرٍ منه إذا احتيج إلى ذلك على أقوال مفصَّلة في كتب الفقه، وعينهم ترقب بقاء ودوام ومنفعة الوقف أينما حلَّ وكان.
ج) استقلال نظام الوقف في الإسلام:
إن لنظام الوقف الإسلامي ميزة يتميز بها؛ وهي الاستقلال عمَّن أوقفه، وعن ذريته، وعن الراعي والرعية، فإذا حبَّسَ أحدنا مالاً أو عقاراً أو شيئاً؛ صار في عِداد الممتلكات العامة، فلا يمكن للواقف أن يرجع لنفسه ما حبَّسه لله تعالى.
د) أنه يواكبُ العصرَ ويُلبِّي حاجة الأمة:
لقد تقدم معنا أن الوقف ونظامه مستمر وثابت، وأن الأصل عدم زواله، وبناء على ذلك فهو موجود في كل عصر و مصر، وهو يتنوع على حسب حاجة الأمة.
ففي بعض الأعصار يحتاج الناس إلى إقامة الأربطة والمستشفيات وتعاهدها مثلاً، وفي أخرى هم بأمس الحاجة إلى المدارس والمعاهد وهكذا، فيسمح نظام الوقف الإسلامي بالتنوع والتنويع على حسب الضرورة والحاجة.
فنظام الوقف في الإسلام - يُراعي - مدى حاجة الأمة على حسب عصرها ومصرها، والأحوال المحيطة بها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولن يجمد هذا النظام عند أصناف معينة من الأوقاف؛ كبناء المساجد - مثلاً - خلافاً لمن رأى ذلك.
ثانياً - مقاصد الوقف الإسلامي وأبعاده:
الوقف لا يراد بذاته؛ إنما يُراد بسبب مقاصده وغاياته ومراميه المصلحية الشرعية التي تخدُم المُعدَم، والفقير، والأرملة، واليتيم، والشاب الطموح، وغيرهم من شرائح المجتمع، فالحديث عن مقاصد وغايات الوقف الإسلامي الشرعية، وأبعاده ومراميه المصلحية، لا بد أن ينطلق من حيث معرفة مدى حاجة الناس ومصالحهم على اختلافهم وتنوع أحوالهم.
والجمود في الوقف يُخالف مقاصد الإسلام وأبعاده من وجوه عديدة، كما لا يوافق كثيراً من الحكم التي شُرِعَ من أجلها الوقف والحبس، وقد قرَّر ابن تيمية - كما في بعض فتاويه -: «أنه ينبغي لمن أراد أن يوقف أن ينظر إلى ما هو أقرب إلى رضا الله ومحبته وأنفع لعباده، وأن يتحرى ما نتائجه أكثر، وعوائده أعم وأنفع».
وإن هذه المقاصد والأبعاد لتنبثق من بوتقة المقاصد الشرعية الكبرى للإسلام التي ترعى حقَّ الله - تعالى - ثم حقوق العباد والبلاد وما حولنا ممّا خلق الله تعالى لنا ولغيرنا، وهذه المقاصد على كثرتها تحمل بُعداً إنسانياً كبيراً، فالعناية بالمسلمين وبغير المسلمين من مقاصدالوقف الإسلامي وأبعاده، وهذه بعض المقاصد التي من أجلها شُرعَ الوقف والتحبيس في الإسلام.
أ) عمارة الأرض:
من يتأمَّل نظام الوقف في الإسلام يجده ذا غايةٍ عظيمةٍ، ومقصدٍ نبيلٍ رفيعٍ نحو القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها؛ فالأوقاف والأحباس أنواعُ شتى مما يَعمرُه الإنسان في الأرض، وما يقوم به الواقف من وقف بعض ماله يمضي في طريق الاستخلاف في الأرض وإعمارها؛ فحفر الآبار، وإقامة المشروعات الخيرية التعليمية أو الصحية أو الاجتماعية، ودعم الشباب الطموح؛ لهي جزءٌ مهم جداً من هذه المهمة، قال - تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61)، ويلاحظ في الآية استخدام لفظ (أَنشَأَكُم) على أن الاستخلاف في الأرض العناية بالبشر وتنميتهم، وفي لفظ: «استعمركم» إشارةً إلى عمارة الأرض وإصلاحها بالبناء والتنمية والبشر، وفي ذلك يقول السعدي: «أي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها».
ب) إقامة مورد اقتصادي ثابت شامل مستقل فاعل:
فمن الحكم والمقاصد العظيمة: إيجاد مصدر تمويلي دائم لتحقيق مصالح خاصة ومنافع عامة، وعلى أساس هذه المقصد يمكن وصف الوقف بأنه وعاءٌ يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد، وهي من أموال المسلمين وممتلكاتهم التي حصلوا عليها بطرق الحلال الطيّب».
ولقد صارت الأوقاف مصدراً تمويليَّا للمسلمين عبر سنين؛ بسبب كثرة الأوقاف، يقول الشافعي: «بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من الصحابة من الأنصار وقفوا».
وقال الرحالة ابن بطوطة: «الأوقاف في دمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها؛ لكثرتها».
ج) تحقيق التكامل والتكافل الاجتماعي:
إن نظام الوقف في الإسلام يستهدف ما يحتاجه الناس في أزمنتنا هذه؛ كوقف الأربطة والدّور على الأيتام والأرامل، وتدريب الشباب، والفقراء، وكبار السن والمغتربين، وإقامة المشاريع الصحية؛ كمراكز علاجات غسل أمراض الكلى، وأمراض السرطان والأورام، ومستشفيات للمعاقين (ذوي الاحتياجات الخاصة)، ومراكز صحية متنقلة لعلاج مرضى العمل المؤقت ونحوه، ومراكز مساعدة لبيع الدواء المخفّض، ومكاتب لإعانة المرضى المحتاجين إلى العلاج ببلدان بعيدة.
د) نشر العلم بين الناس وحفظه، والعناية بالمنتسبين إليه:
لقد ازدهر العلم ونمت مكتسباتُه في العالمين العربي والإسلامي منذ الزمن القديم، وقدَّمَ العالم الإسلامي للشرق والغرب العلماءَ في شتى المجالات العلمية والعملية، الدينية والدنيوية، النظرية والتطبيقية، وانتشرت كنوز العلم في أرفف مكتبات العالم العربي والإسلامي والغربي.
ولقد ساهم الوقف بشكلٍ خاصٍّ في بناء أركان الثقافة الإسلامية المتنوعة على امتداد العصور والديار الإسلامية، وظهر دورٌ كبيرٌ للمسلمين الواقفين في بناء دُور المكتبات الخاصة والعامة والملحقة بالمدارس والمستشفيات والمساجد.
ثالثاً - الوقف بين الأصول الشرعية والتطبيقات المدنية:
الوقف في أصل وضعه الشرعي عبارة عن «صدقة جارية»؛ أي مستمرة، وهذا معنى تعريفه عند الفقهاء بأنه: «تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة»، وقد حضَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، والمراد من الصدقة الجارية هو حصول الثواب عن طريق دوام إنفاق ريع تلك الصدقة في وجه أو أكثر من وجوه البر و الخيرات على اختلاف أنواعها وتعدد مجالاتها.
وعلى الرغم من الأساس المتين للوقف الإسلامي في الشريعة الإسلامية بالمعنى المشار إليه؛ إلا أن سلبيات الممارسة الاجتماعية لهذه الفكرة في بعض المراحل التاريخية، وبخاصة في عصور الانحطاط والتدهور، قد خلَّفتْ وراءها صورةً شديدة السلبية عن نظام الوقف برمته، ولعلَّ من أهم عناصر هذه الصورة السلبية عن الوقف أنه نظام فاسدُ ومليءٌ بالسلبيات الاجتماعية والاقتصادية التي تبدأ بحرمان النساء من حقوقهنّ في الميراث، مروراً بتعطيل قسم كبير من مصادر الثروة والتسبب في ركود النشاط الاقتصادي العام في المجتمع، هذا فضلاً عن أنه نظام ينتمي للماضي البعيد الذي ولَّى ولن يعود، بدليل أن الناس عزفتْ عنه، ولم تعد تضيف إليه أو تُقبل عليه، وأنه نظام ديني مغلق لا صلة له بالشؤون الاجتماعية والتنموية ولا يتجاوز المسجد والمقبرة إلا قليلاً، ولم يكن يشارك في تأسيسه إلا ذوو الجاه العالي والثراء العريض ...إلخ.
والحقيقة غير ذلك؛ فهذه الصورة السلبية ارتسمت بسبب التطبيقات السلبية الجمودية للوقف؛ وهي مبالغُ فيها إلى حدٍ كبير، فعلى المستوى الواقعي نجد أن المجتمع العربي الحديث قد ورث عدداً من المؤسسات المدنية والدينية التي أسهم نظام الوقف إسهاماً رئيساً في إنشائها، وفي المحافظة عليها وضمان استمرار خيراتها ومنافعها العامة دون توقف، وفي مقدمتها: المساجد، والمدارس، والمكتبات؛ ودور الرعاية الاجتماعية من ملاجئ، وتكايا، وخانات، والمستشفيات، وأسبلة مياه الشرب.
لقد تشكَّلَ هذا الإرث على قاعدة نظام الوقف في ظل النمط التقليدي للحكم والإدارة في الدول العربية إلى مشارف التاريخ الحديث - بكل ما كان لذلك النمط من إيجابيات وسلبيات - ولكن ظهور النمط الحديث للدولة، وما تبعه من تغيرات في أنظمة الإدارة، وفي مسؤوليات الحكومة تجاه المجتمع، وظهور صيغ جديدة للعمل الاجتماعي الخيري (الأهلي والحكومي معاً): كل هذا أدى إلى حدوث تحولات جذرية في مفهوم العمل الخيري والتطوعي، والذي يأتي الوقف في القلب منه، وفي أبنيه المجتمع الأهلي/المدني التي نشأت على أساسه أو اعتمدت عليه من جهة ثانية؛ وفي الموقع الوظيفي الذي احتلته تلك المؤسسات المدنية على محور علاقة المجتمع بالدولة من جهة ثالثة.
رابعاً - الإعلام ودوره في تنمية وفاعلية الأوقاف:
هناك العديد من القضايا والتشريعات الإسلامية التي ظَّلت غائبة عن التناول والطرح الإعلامي السليم، أو يتم تناولها نادراً أو عرضاً بين ثنايا الحديث وجزئياته، ومن ذلك: الوقف الذي يجب أن يكون أولى الأنشطة التي ينبغي أن تقدم لجمهورها وفق أفضل قنوات وأساليب الاتصال الحديث الملائمة؛ لاسيما وأنها في واقع الأمر تمثل نشاطاً اتصالياً يستهدف تغيير واقع الناس إلى الأفضل والأمثل.
والإعلام شريكٌ إستراتيجي في تنمية وإدارة الوقف؛ ففي عصر الإعلام والاتصال أصبح من الأهمية بمكان استغلال قنوات الاتصال والإعلام كافة؛ للتعريف بالوقف واستثماراته، وهذه الشراكة تنبني على وضع خطط وبرامج مشتركة بين الإعلام وإدارات الأوقاف الحكومية والأهلية؛ لإبراز الأعمال الوقفية، وتوفير المعلومات اللازمة عنها، واستغلال الإعلام كذلك لتوعية الجمهور بدور الوقف ووجوب تنوعه في مجالات التنمية والصحة والتعليم وغير ذلك.
إن دور الإعلام في مجال الوقف كبير، فلا يمكن الوصول إلى الغاية النبيلة التي من أجلها شُرِعَ الوقف إلا بالتوجيه والتناصح والتوعية والشفافية لعموم الناس، ووسائل الإعلام.
والقائمون عليها هم قاعدة ذلك وبوابته، فالوقف يجسد أروع صورة من صور التكافل الاجتماعي التي نادى بها ديننا الحنيف، والمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
وفي هذا العصر الذي صار للإعلام فيه الدور البارز الكبير، ذلك لأن توجيه الأمة وتوعيتها دلالة لها على الخير، الذي للدَّال عليه كأجر فاعله، والله - تعالى - يقول في محكم تنزيله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج ، 77]، ومن منّا لا يسعى إلى الفلاح والنجاح والسعادة المقيمة.
إن علينا توضيح الحقيقة لمن التبست عليه وتنبيه من غفل عنها، وهي أن أعمال الأبدان تنقطع بموت الإنسان فلا يبقى له إلا ما أبقاه من عمل صالح يستمر ثوابه له بعد الموت، وذلك ما أخبر به الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
فالوقف في الإسلام صدقة جارية إلى ما شاء الله، ولأهمية تكامل وتكاتف مختلف قطاعات المجتمع لإحياء سنة الوقف، فإن وسائل الإعلام بأشكالها كافة ينبغي أن تقوم بحملات مكثفة؛ للتوعية بأهمية دور الوقف في المجتمع الإسلامي، وحث رجال الفكر والأدب على المشاركة في هذه الحملات إضافة إلى العلماء والمشايخ من الدعاة وطلبة العلم والأئمة والخطباء من خلال الندوات التلفازية والإذاعية، والمجلات، والصحف، ووسائل الإعلام والاتصال الجديد (مواقع التواصل الاجتماعي)، مع أهمية التنويه إلى ضرورة مشاركة رجال المال والاقتصاد والسياسة والتخطيط؛ لتحقيق الغاية المرجوة، فكلما تضافرت الجهود على تأدية عمل معين كان له أثره القوي البارز في صلاح حياة الفرد والأمة مما يرجى معه أن يكون الثواب عند الله أجزل وأعظم.
إن موضوع الوقف من الموضوعات المهمة في تنمية المجتمع، ومع ذلك يغيب جوهر تشريعه وحكمته عن بال الكثير من المسلمين المعنيين به؛ مما يؤثر سلباً على درجة الاستجابة له؛ لعدم وجود ما يُذكّر به ويؤكد حاجة المسلمين له سواء من الموقفين أو المنتفعين به، ولا شك بأن ذلك مما يشجع على دراسة هذا الموضوع والبحث فيه وعلاقة الإعلام به، ولكي يتم تحديد جوانب تلك العلاقة والخروج منها برؤية تسهم في الإفادة منها وفق عناصر مرسومة وفقاً لتساؤلاتها التي تتخلص في الآتي:
1- ما خصائص الوقف الإعلامية؟
2- كيف يتم التأثير الإعلامي في الجمهور؟
3- ما دور الإعلام في التوعية بشكل عام؟
4- ما دور الإعلام في التوعية بالأعمال الخيرية؟
5- ما دور الإعلام في التوعية بالوقف؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات من خلال الدراسات المتخصصة التي استفدت منها يمكننا صياغة عدد من النقاط المهمة؛ لتحقيق الأهداف المرجوة للإفادة من الإعلام كقوة دافعة بالوقف:
1- غياب الظهور الإعلامي للوقف، مما يستدعي الحاجة إلى التعرف على الأسس المناسبة - المستنبطة من الدراسات السابقة - لتوظيف الإعلام لتقديم هذه الرسالة الخيرية بشكل يتناسب مع أهميتها.
2- لا بد من التعريف الوافي بالوقف وبيان منافعه الدينية والدنيوية؛ ذلك أن الدراسات تشير إلى أن الناس لديهم الاستعداد للإسهام في أعمال الخير كلما أصبح لديهم المعلومة الكاملة والفهم الجيد لجدوى الإسهام.
3- ينبغي على الجهات المختصة في تنظيم الوقف والإشراف عليه توضيح الدور الذي تقوم به الهيئات والمؤسسات الوقفية، وطبيعة نشاطها في هذا المجال؛ ذلك أن معرفة الجمهور الدقيقة بآلية التخطيط لأعمال الوقف وبنوعية الإنجازات التي تقوم بها الجهة المشرفة حريٌّ بأن يضاعف من تفاعل الناس إيجابياً مع نشاطاتها.
4- أهمية إجراء دراسات ميدانية على جمهور الوقف؛ للتعرف على مستوى إلمامهم بهذا العمل الخيري المهم، ولتحديد العناصر الأساسية لتطوير عملية التوعية بالوقف والوسائل الإعلامية الأكثر وصولاً لهم؛ ذلك أنه متى تم تحديد ما يختار الناس من الوسائل الإعلامية؛ فإنه يمكن توظيفها لخدمة الرسالة.
5- تشجيع المؤسسات التعليمية في التعليم العام أو التعليم العالي على الاهتمام بموضوع الوقف؛ ليحظى بنصيب وافر في مناهجنا، ولتتم التوعية به من قبل القائمين عليها من وقتٍ لآخر؛ إذ إن ذلك يعدُّ خطوة حاسمة في تنشئة الأجيال اجتماعيَّاً على حب عمل الخير الذي أوصى به الشرع.
6- ضرورة التواصل مع وسائل الإعلام وتزويد القائمين عليه بالمعلومات اللازمة حول الوقف وأحكامه وأهميته للمجتمع ودعوتهم لحضور الندوات جلسات النقاش التي يمكن أن تحفزهم بالمشاركة إعلاميَّاً في توعية الجمهور به.
7- تطوير الوقف من خلال الدراسات والبحوث التي تنشرها وسائل الإعلام.
8- تنمية الأموال الموقوفة من خلال الإعلان عن الخدمات التي تقدمها أو المنتجات التي تبيعها.
9- توعية المستفيدين من الأموال الموقوفة بضرورة الحفاظ عليها ورعايتها؛ حتى يستمر نفعها لهم ولمن يأتي بعدهم.
مسألة فقهية مهمة:
حكم الصرف من الأموال الموقوفة من أجل الإعلان عن خدمات الوقف ومنتجاته عبر وسائل الإعلام.
قد يتساءل البعض عن حكم الصرف على الإعلان عبر وسائل الإعلام من أجل خدمات الأوقاف؛ فالبعض قد لا يدرك أهمية هذا الأمر، والبعض الآخر لا يعدُّ ذلك من الضرورة.
وقد تحدَّث الباحثون والفقهاء عن النفقات التي يحتاجها الوقف؛ لاستمرار خدماته التي يقدمها فقالوا: «إن الناظر يجب عليه إصلاح الوقف، وتكون نفقته من غلة الوقف؛ لأنَّ عدم الوقف يؤدي إلى تلفه وعدم بقائه».
وقالوا أيضاً: «إنّ صاحب الوقف إن لم يشترط ناظراً فالنظر للموقوف عليه، وقيل للحاكم، وينفق عليه من غلته».
وعندما سُئلَ ابن تيمية عن صرف الأموال الموقوفة في عمار الوقف؛ أو الوظائف المتعلقة بالوقف تحت مصالح الوقف واستحقاق من يقوم بذلك الصرف من الوقف فقال: «القائمون بالوظائف مما يحتاج إليه المسجد: من تنظيف وحفظ وفرش وتنويره وفتح الأبواب، وإغلاقها ونحو ذلك؛ هم من مصالحه، يستحقون من الوقف على مصالحه».
وقد قرّرَ بعض الباحثين في الوقف الإسلامي: أنّ الإعلان في عصرنا الحاضر يمثل إحدى الوظائف التي كان يقوم بها ناظر الوقف قديماً؛ فالناظر قديماً كان لا بدَّ له أن يعلِّمَ الناس بالعقارات التي لديه إن كانت أُعدت للإيجار - مثلاً - فيعلن عنها ويعرضها على المؤجرين ويبين لهم مميزاتها، وهذا هو بالضبط ما تقوم به وسائل الإعلام عندما تعلن عن المنتجات والسلع، وتُعرّف الناس بالسلعة ومميزاتها، ولا سيما في هذا العصر الذي تعددت فيه مشاغل الناس وتشعبت اهتماماتهم، واتسعت فيه أعمالهم، فلا يجدون وسيلةً للبحث عن الخدمات والسلع إلا بالاطلاع على وسائل الإعلام وما تنشره من إعلانات».
كما أن المؤسسات الوقفية بحاجة للإعلان عن نفسها، وتعريف الناس بمشروعاتها؛ ليقوموا بتوقيف أموالهم لمصلحة هذا المشروعات، فهذا الإنفاق يدخل في الإنفاق لتنمية الأموال الموقوفة، وهذا يشترط له بذل الجهد والوسع في دراسة الجدوى، وذلك من أجل حفظ الأموال الموقوفة وإنمائها.
وفي التجربة الغربية تجد الدور الكبير لوسائل الإعلام المختلفة في خدمة الأموال الوقفية لدى الكنائس والمؤسسات الخيرية، وذلك بإشاعة روح البذل بين الناس، وكثيرٌ من ذلك لا يكون ديانةً، وإنما تبرعات إنسانية لا يرجون من ورائها أجراً، فوسائل الإعلام قادرةٌ على إقناع الإنسان المسلم بخدمة تلك المؤسسات الوقفية رغبةً فيما عند الله - تعالى.