د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أسوأ أنواع الصراعات التي تنشأ داخل الأمم وأكثرها دموية تلك المتعلقة بتدني الوعي وضياع الهوية. وما أن تفقد الأمم هويتها الراسخة، أو تحاول استبدالها إلا وتفقد معها اتزانها ورؤيتها المستقبلية الواضحة، وتبدأ بالتخبط في متاهات التجاذبات الجيوسياسية. فالهويات لا تُجدد حسب المصالح الآنية، ولا يُصطلح عليها بين الأقوام، وهي تتطور ببطء على مدى التطور التاريخي للشعوب، وبناءً على تكيفهم الممتد مع بيئتهم ومحيطهم الجغرافي والثقافي. وقد أصيب وعي العرب الذاتي بما يشبه الشلل بمحاولتهم استبدال هويتهم القومية بسب المصالح السياسية الآنية بهويات أخرى قطرية أو أممية بما يُشاهد اليوم من التشتت والتقسيم والضياع.
ويكاد يجمع الباحثون في التاريخ والاجتماع وعلوم السياسة على أن أقوى الهويات هي تلك التي تبنى على اللغة مع توافر عوامل أخرى كالتقارب الجغرافي والعرقي والديني واللحمة التاريخية. وهذا لا ينطبق على العرب وحدهم بل على كثير من الشعوب الأخرى، فاستبدال الهوية اللغوية الأوربية بأخرى جديدة تعتمد على المصالح الاقتصادية لم يصمد أمام مظاهر التصدع والتفكك القومي، وكان التقارب الأمريكي البريطاني، مثلاً، أقوى من التقارب بين بريطانيا وبقية قوميات أوروبا الأخرى. وسبق وفشلت بريطانيا في فصل هونج كونج عن الصين وتغيير لغتها، و فشلت البرتغال في الوصول للهدف ذاته مع مكاو، وفرنسا مع الجزائر.
وكانت أقوى مراحل التاريخ العربي تلاحماً وتماسكا تلك التي تلت التحرر من الاستعمار المباشر الذي حاول المساس بالهوية العربية، مصر من الاستعمار البريطاني، والجزائر من الفرنسي. وقد اسُتقبل عبدالناصر، مثلاً، بحفاوة منقطعة النظير في كافة أنحاء الوطن العربي ومنها السعودية في عصر الملك سعود. ولكن قصر رؤية بعض الأنظمة العربية المؤثرة جعلها تستبدل الرؤي المصيرية برؤى قطرية ومصالح ضيقه: عبدالناصر، بتدخله في اليمن في ستينات القرن الماضي، وصدام حسين بغزو الكويت في عام 1990م. وتوج السادات توجه التخلي عن الرؤية العربية المشتركة بذهابه لكامب ديفيد منفرداً عام 1973م حيث بدأ الكلام عن هوية مصر الفرعونية، فتم تشويه الهوية العربية وربطها بالعرق وليس اللغة والثقافة والتاريخ المشترك مما حدا بالأقليات التي قبلت يوما ما بالهوية العربية كالأمازيغ، والأكراد، والسودانيين الجنوبيين وغيرهم أن يعيدوا بعث هوياتهم على أسس عرقية ودينية.
وبدأت مرحلة التشرذم باجتهاد الإخوان المسلمين لتحطيم الهوية العربية بدعوى الانتماء لهوية إسلامية عالمية أوسع، وصوروا التمسك بالانتماء العربي على أنه انتماء شعوبي عنصري ينافي تعاليم الإسلام. وعزز هذا التوجه مراحل التطرف الديني والجهاد في افغانستان والبوسنة.
ولا أحد يقلل من أهمية روابط وأواصر الانتماء الإسلامي، وهو بلا شك هوية أوسع للعرب من المسلمين، غير أن الاعتقاد الخاطئ الكبير والوهم الذي تم تسويقه للشعوب العربية المتذمرة من الفشل التنموي للأنظمة العسكرية والبوليسية، هو أن هويتهم الإسلامية تتناقض بشكل جذري مع هويتهم العربية وتلغيها. وهذا بالضبط ما ارادته بريطانيا بعد توسع المد القومي العربي بدعمها للإخوان، ومعروف أن بريطانيا دعمت بكل خبث أيضا المد القومي العربي ضد الخلافة العثمانية. ولكن الهدف الدائم الثابت للقوى الاستعمارية، بما فيها دولة إسرائيل التي بدأت تتحول إلى قوة إقليمية عظمي هو إحداث صراع هويات في المنطقة سعياً لتقسيمها واستمرار السيطرة عليها، وهذا لم يأت من فراغ بل من دراسات إثنولوجية وتاريخية للأمتين العربية والإسلامية.
الشيعة الإيرانيون شاركوا الإسلاميين السنة في الهجوم على الهوية العربية بكل حماس، وشاركوهم في توجههم الديني الأممي ولكن مع زيادة التأكيد على هويتهم الفارسية، والشيء ذاته فعله الأتراك، فالفضاءات القومية لهاتين الدولتين ليست باتساع الفضاء القومي العربي، ومن هنا تكمن مصلحتهما العليا من تقوية الانتماء الديني والمذهبي. ولكن العرب بالتأكيد على الهوية الإسلامية على حساب الهوية العربية افسحوا المجال للطائفية.
فالهوية العربية هي من حفظ لنا ولاء الأحواز العربية مثلاً، والهوية الدينية والمذهبية هي التي اضاعت العراق ولبنان وسوريا. وهذا ما نسيه وللأسف أشقاؤنا في مصر عندما صوتوا مع الروس في مجلس الأمن مخالفين بذلك التوجه العربي بإيقاف مجازر سوريا وحلب. ويبقى هناك سؤال مصيري واحد فقط، إلى أين سيأخذ التحالف مع إيران بعض اخواننا العرب.