د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يظل التعليم الأساس الأول التي يبنى عليه اقتصاد ووعي الشعوب، واللبنة الأساس التي تؤسس عليها الدول الحديثة القوية القادرة على المنافسة. وقد تبنت الدول مقاربات وتوجهات متنوعة ومختلفة من أجل الاستفادة المثلى من دمج التعليم في التنمية. فدول رأسمالية بالكامل، وهي دول بنت اقتصاديات ضخمة منذ قرون خلت، ولديها ثروات متاحة تراكمت عبر سنوات طويلة من التنمية مثل أمريكا وبريطانيا تتيح فرص تعليم مختلطة عامة وخاصة إلى مرحلة الثانوية وتفرض رسوماً على مرحلة التعليم ما بعد الثانوي، أي على مرحلة التعليم الجامعي وتترك للفرد خيار ممارسة ما يتعلمه فيما بعد في اقتصاد مفتوح بالكامل، ولكنها مع ذلك لا تترك حبل الوظائف المهنية على الغارب. وهناك دول مثل دول الاشتراكيات الديمقراطية تكفل فرصا تعليمية مزدوجة لما بعد التعليم الثانوي منها التعليم الفني والمهني، والتعليم الجامعي مجاناً للمتفوقين فقط، ويكون التعليم الجامعي ذي طابع بحثي. ولذا فهي توجه التعليم الفني وجهة اقتصادية بحتة بناء على الاحتياجات التنموية، ومن هذه الدول أيضاً ألمانيا وفرنسا.
أما الدول الشيوعية والاشتراكية، كما كانت عليه الصين أيام ماو أو الاتحاد السوفيتي، وهي دول شمولية بالكامل لم تتطور اقتصادياتها بشكل كبير ومفتوح، فكانت تصر على ربط التعليم النظري بالممارسة العملية. فيتعلم الطالب جزءا من الوقت في الصف وبقية الوقت في الحقل أو المصنع. ويعزو البعض تقدم الاقتصاد الصيني في مرحلة ما بعد الثورة الثقافية التي قادها ماو تسي تونج إلى هذا النمط المزدوج من التعليم. وبعد الانفتاح في السبعينات على يد تشاو بينج استطاع الاقتصاد الصيني بسبب توجهه المهني استقطاب راساميل ضخمة من دول العالم المتقدم لتوفر العمالة الفنية الماهرة والرخيصة. وبعد توفر الأموال اتجهت الصين لتبني مفهوم الجامعات والمعاهد البحثية وهي الآن تقف على رأس الاقتصاد العالمي، وتنمو بشكل متسارع حتى في أوقات الركود العالمي.
ومهما كانت التوجهات، رأسمالية أو شمولية، تظل الممارسة هي الجانب الأهم في التعليم وبدونها لا قيمة للتعليم النظري. وفي اقتصاد شمولي مفتوح مثل اقتصادنا التي تتخذ فيه السياسات التعليمية بشكل مركزي في بلد له اقتصاد مفتوح بشكل شبه كامل تزداد قيمة الممارسة كقيمة إضافية أساسية لما تقدمه الجامعات والمعاهد المهنية. فلا عيب أن يكون لنا نظم تعليمية واقتصادية خاصة بنا ولكن العيب هو في ألا نستفيد من مواردنا ومقدراتنا بالشكل الكامل والأمثل. وهذا هو ما يقصده البعض أحيانا عندما يطالب بربط التعليم باحتياجات التنمية.
ما يحصل فعلياً في مجتمعنا هو أن الدول التي تصدر لنا عمالة رخيصة تتهافت عليها شركاتنا ومؤسساتنا هي في الواقع عمالة استكملت تعليمها النظري في بلدها وتستكمل تعليمها العملي في بلادنا. وما أن تستكمل خبرتها بالكامل تعاود الهجرة المعاكسة إما لبلادها الأصلية أو لبلدان متطورة. فنحن نوفر لهذه العمال لاستكمال تدريبها العملي: الأجهزة الحديثة، والوقت، والمدربين، وتعلم الانضباط، وكلفة الأخطاء والتلفيات، وغير ذلك. والجانب الأهم من هذا وذاك هو أن ذلك يكون على حساب أبنائنا الذين تخرجهم جامعاتنا ومعاهدنا بتأسيس نظري أقل ما يقال عنه أنه جيد، لكنهم لا يجدون فرصتهم في الممارسة لمزاحمة اليد العاملة الرخيصة الوافدة لهم. وهذه هي أحد أهم الكلف غير المنظورة للعمالة الوافدة، والغريب أننا ندفعها مع أننا نملك من وسائل التخطيط ما يمكن من تخفيف ضررها بالكامل لاسيما واقتصادنا يعتمد أحيانا أدوات التخطيط الشمولي. فالقضية ليست قضية رفع كلف التأشيرات ولا سعودة قطاعات صغيرة كالاتصالات بل هي أبعد من ذلك بكثير وترتبط بتكاليف مخرجات تعليمنا المكلف التي لا تجد فرصة للممارسة العملية واكتساب الخبرة. فهل يعقل أن يكون لدينا بطالة بين المهندسين المدنيين مع ضخامة المشاريع التي تنفذ في بلادنا؟ وهل سترسل الصين خريجي جامعاتها للتدرب في مجالات البناء على مشاريع الإسكان القادمة لدينا؟