ونستكمل هنا بعض القضايا المثارة عند الحديث عن أفضلية العربية المطلقة على اللغات.
ثانياً: الزعم بأن اللغة العربية هي أفضل اللغات في الإبانة عن أغراض المتكلم وحاجاته، أي في التعبير البياني. وهذا مجافٍ للصواب منبعه عدم فهم طبيعة اللغة البشرية أصلاً فاللغة هي عكس للفكر والفكر عكس للإدراك أي مايدركه الإنسان بحواسه من العالم الخارجي فلأن الصحراء والإبل مثلاً عناصر متجذرة في نفسية العربي القديم وفكره أصبح لديه كم هائل من الثروة اللغوية المعجمية المتعلقة بهذين المدركَين حسياً، لكن فتش عن ثروة معجمية متعلقة على سبيل المثال بالثلج أو حيوان السنجاب أو القندس وستعود بخُفيّ حنين! بينما عند قبائل الاسكيمو تصل المفردات اللغوية التي تعني «ثلج» إلى مئات وكل منها يتعلق بمعنىً دقيق من معان الثلج وأحواله. ثم إنه إذا كانت اللغة عكس للتصور واللغة العربية هي أفضل اللغات فيلزم من ذلك أن تصور العربي وعقله هو أفضل التصورات وأفضل العقول !!!!
ثالثاً: الزعم بأن اللغة العربية هي أصل اللغات. لا أحد يستطيع لا عقلاً ولا نقلاً إثبات أن اللغة التي تكلم بها آدم عليه السلام هي نفس اللغة التي نزل بها القرآن الكريم بحيث أنها بقيت بمبانيها ومعانيها ولم تتغير أو على الأقل بقي أصلها، بل إن هذا مناقض للحتمية التأريخية. فإذا قلنا مثلاً إن العربية والعبرية والأمهرية هي لغات ساميّة فإننا نعني بذلك أنها منحدرة من أصل واحد سامي «Semitic» فهذا الأصل مختلف عن تلك اللغات الفرعية وإن كان يشترك معها ببعض الخصائص. فخصائص اللغة العربية التي تفترق بها عن اللغة الساميّة الأم المفترضة لابد أن تكون نتاج تطور لغوي فاللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم والتي هي غالباً لغة قريش إنما هي نسخة متطورة عن اللغة العربية القديمة والتي هي بدورها نسخة متطورة عن الأصل السامي الذي تفرعت منه اللغات الثلاث آنفة الذكر، إلا إن كانت اللغة الساميّة الأولى هي نفسها اللغة العربية وتفرع عنها باقي اللغات، ولا سبيل إلى إثبات ذلك. وإذا كانت اللغة العربية الفصحى المعاصرة قد تطورت تطوراً كبيراً عن لغة عهد النبوة وما حوله التي نزل بها القرآن الكريم مع كل الجهود حينئذ لتدوينها وحفظها وتثبيتها وهو تغير وتطور من نسخة اللغة العربية «المقدسة» التي استعملت في ما يسمى بعصر الاحتجاج اللغوي فكيف إذاً سَلِمت اللغة العربية الأصلية المزعومة التي هي أصل اللغات عن التغير والتطور منذ آدم عليه السلام وحتى عصر «الاحتجاج اللغوي»؟!. في هذا العالم هناك ماهو ثابت كوني وهناك ما هو متغير تأريخي آني خصوصي إنساني واللغة الإنسانية في المستوى الذي نتكلم فيه هنا هي من قبيل المتغير الآني الخصوصي لأنها استجابة لأغراض الإنسان وحاجاته عبر التاريخ. وكون اللغة العربية الرسالية محفوظة بحفظ القرآن الكريم لا يعني أن العربية لم تتطور فهناك نوعان للعربية: نوع محفوظ ونوع آخر متطور يتمثل في نُسَخ العربية التي تطورت وهي اللهجات الطبيعية السليقية المنسجمة مع نواميس الله في الطبيعة والكون، أما النوع المحفوظ الباقي فقد جرى تثبيته بحركة واعية موجهة قسرية. أما لغة القرآن الكريم فهي معجزة قائمة بذاتها لا دخل للعربية بإعجازها فلم يزدها إعجازاً كونها جاءت بلسان العرب كما لم يزد هذا الإعجاز حسناً كونها كذلك ولذلك نجد في القرآن الكريم ألفاظاً وتراكيب ربما لم تُستعمل قبل القرآن ولم تُستعمل بعده فهي لغة قرآنيةختومة مسجّلة ولو حاولنا تقليدها لفشلنا وظهر ادعاءُنا لأننا أخرجناها من صورتها العامة الجميلة المتماسكة.
رابعاً: الزعم بأن الله تعالى كما فاضل بين مخلوقاته فقد فاضل بين لغات البشر، وهذا قياس فاسد ومغالطة بيّنة فإن الله تعالى فاضل بين أجناس الخلق ولم يفاضل بين مفردات الجنس الواحد (ولقد كرمنا بني آدم) فلم يفاضل بين البشر إلا في حالات استثنائية تستدعي تلك المفاضلة كفضل الأنبياء على سائر البشر، وهذا التفاضل مرتبط بالمقدس أي خارج عن الذات وهو قائم على نصوص صريحة صحيحة من الوحي فأين مثل تلك النصوص الصحيحة الصريحة عن أفضلية العربية التي تشترك مع اللغات الأخرى في الجنس؟! ... يتبع.
د. رياض الدخيل - أستاذ اللسانيات المساعد بجامعة الملك سعود
aldokhayelr@