علي الصراف
مثل كل نظام ذي طبيعة أيديولوجية مغلقة، فإنه لن يمر عقد على وجوده في السلطة، حتى يتحول إلى «دولة» تحل محل الدولة السابقة. ولن يمضي بعد ذلك عقد آخر من الزمان حتى لن يعود بوسع هذا النظام أن يرى شعباً، لأنه يكون قد أنشأ شعباً خاصاً به.
فإذا شاء الله، بحكم التهميش والمظالم، أن يطالب «الشعب الحقيقي» بأي حقوق، فإن النظام لن ينكر تلك الحقوق فحسب، بل ينكر وجود هذا الشعب أصلاً، ويحتقره، لأن لديه «شعباً» آخر من المرتزقة يكفيه، ويغني له مهما فعل.
وعندما يقوم هذا النظام بقصف «الشعب صاحب الحق في الوطن» بالطائرات والصواريخ والمدافع، فلأنه بالأحرى لا يراه، وبالتالي فإنه، في قناعة نفسه، لا يقصف أحداً يستحق الذكر.
اذهب لتسأل أي مسؤول سوري عن أعمال القصف التي تطال مدنيين، فإنه سينكر وجودهم. لأنه ببساطة لا يراهم ولا يعترف لهم أصلا ًبحق الحياة. وإذا تسامح معك، فإنه سوف يطلق عليهم صفة جماعية (من قبيل الإرهاب)، تؤكّد النتيجة نفسها. وهي أنهم يجب أن يُقتلوا جميعاً، ولو باستخدام قنبلة نووية.
لا يوجد شعب. وبالتالي، فليس من حقه أن تكون له مطالب، بصرف النظر عن عدده، أو أهميته للكيان الاجتماعي أو للدولة.
كيف يمكن في ظل رؤية كهذه، أن يتم التوصل إلى أي حل سياسي؟
الحل السياسي، أياً كان، إنما يستند إلى الاعتراف بأن أولئك الناس (غير الموجودين) قد باتوا موجودين، ويمتلكون حقوقاً.
وهذا من آخر العجائب، بالنسبة لنظام اعتاد على ألا يرى أحداً، كما اعتاد أن يهين ويحتقر كل من يحاول أن يثبت لنفسه وجوداً.
لاحظ أن الدستور الذي يتحدث المسؤولون السوريون اليوم عن إمكانية تعديله، كان في الواقع دستوراً جديداً، لم تمض على إعداده سنتان. ولكن لاحظ أيضاً، أن هذا الدستور قد تم طبخه ليس في حوار مع أي أحد، وإنما في غرف مغلقة.
لماذا؟ لأن هذا النظام، لم ير في الواقع، أي أحد يمكن التحاور معه، فتحاور مع نفسه! ولاحظ أيضاً، أنه عندما كانت الأزمة في بدايتها، فإنه استدعى بعض معارضين، ممن رضي عنهم، إلى مؤتمر ترأسه نائب الرئيس فاروق الشرع، فانتهى المؤتمر إلى فشل ذريع، وإلى اختفاء نائب الرئيس نفسه.
لماذا؟ لأن نخبة النظام أدانت نائب الرئيس (رغم ولائه الأعمى) بأنه أراد أن يمنح حقوقاً لأناس لا يستحقون أي حقوق، بل إنه أعطاهم منبراً للكلام، هم الذين يجب ألا يسمعهم أحد.
التعددية وحرية الرأي في نظر هذا النظام كارثةٌ، ودولة القانون كارثةٌ أعظم. فإذا اجتمعت المطالبة بهذا وذاك، قامت القيامة.
واليوم، فإن النظام لا يخفي استنكاره واحتقاره لجميع المعارضين. لأنهم جميعاً، يمثّلون التحدي ذاته: السعي لتحقيق مطالب لشعب غير موجود!
وهو يميل إلى التساهل مع المتطرفين منهم، لأن احتقارهم أسهل، ولكي يصم الآخرين بوصمهم فيكسب، حسب ظنه، مرتين.
نظام بشار لا يستطيع، بسبب من تلك العقيدة، أن يتقاسم أي شيء مع أي أحد. وهذه العقيدة تملي على جميع مسؤوليه الشعور بأن أي تنازل حقيقي يتم تقديمه لأي طرف معارض، سوف يؤدي إلى انهيار النظام برمته.
وهذا صحيح بالفعل. فبمجرد أن تمنح ذلك الشعب الذي «لا وجود له» فرصة ليثبت أنه موجود، فلسوف تنشأ له حقوق. ومع زوال أو تضاؤل سلطة الخوف، فإنه لن يتردد في أن يكنس كل آثار الاستبداد عليه.
لهذا السبب، لن يكون هناك أي حل. فإما أن يُثبت ذلك الشعب «صاحب الأرض» أنه موجود، فينهار النظام على رأس عقيدته، أو ينتصر النظام لتتم إزالة ما بقي من ذلك الشعب مع ركام المباني التي يتم قصفها كل يوم.