علي الصراف
الفلسطينيون شعب بتاريخ، وثقافة، وتراث، وتقاليد، وأزياء، وشعر، ورواية، وأغاني، وحكايات!
هل يمكن احتلال كل هذا؟
قد يمكن لإسرائيل أن تقصف المنازل، ولكن هل يمكن قصف القصيدة؟
قد يمكن احتجاز مليون أسير، ولكن هل يمكن احتجاز قدرتهم التغني بموال يطلع من القلب؟
قد يمكن لإسرائيل أن تتفاوض على الأرض، ولكن هل يمكن التفاوض على ما تنطق به كل يوم؟
وقد يمكن لإسرائيل أن تقيم حواجز بين القرية والقرية، ولكن هل يمكن نصب الحواجز في نقوش الزي بين القريتين؟
فثمة للمقاومة الفلسطينية وجه آخر، ربما يكون أكثر حقيقية بكثير من مقاومة السلاح. الثقافة سلاح أكثر فاعلية. القصيدة أكثر ترويعاً بالنسبة لإسرائيليين لا يمكنهم أن يكتبوا شعرا من دون مشاعر بالخزي.
والأغنية أبعد مدى من كل صاروخ.
ثمة بعد آخر للوجود الفلسطيني. إنه البعد الذي يمنح الحياة معناها. وهو بعد لا يمكن تحديه لا بقوات احتلال ولا بكل قوة عسكرية على وجه الأرض. إنه هو الأرض. هو ما ينبت فيها مع كل مطلع شمس.
هذا ليس كلاما عابرا. العابر هو الاحتلال الذي لم يمكنه أن يؤسس لنفسه وجودا إلا بدبابة؛ لم يمكنه أن يؤسس إرثاً، إلا بدم؛ لم يمكنه أن يكتب قصيدة، إلا وكان العار ظلا لها.
هم «العابرون في كلام عابر»، هم «المارون بين الكلمات العابرة»، كما خاطبهم درويش. هم الذين حتى إذا أخذوا ما أخذوا «من زرقة البحر ورمل الذاكرة»، فإنهم لن يعرفوا «كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقف السماء».
هذا هو الوجود الفلسطيني الحقيقي. إنه يكمن في زرقة البحر وفي ملح الأرض.
ثقافة الفلسطينيين وتراثهم هما ملح وجودهم. وهذا مما لا يمكن لأي احتلال أن يستولي عليه ولا أن يبني مستوطنة فوقه. سيذوب الملح في أرضه وتنهار المستوطنة. ولكن ليس لأنها بلا تاريخ، وبلا ثقافة، بل لأنها لم تستطع أن تجعل الملح الفلسطيني شرابا، إلا بطعم الدم.
كل المرارات التي عاناها الفلسطينيون على امتداد سنوات القهر، لم تقهر أغانيهم، كما أنها لم تقهر قدرتهم على السخرية من احتلال ظل تعبيرا عن وجود مزيف، بكل ما يملك من دبابات وطائرات ووحشية.
لا مقاومة من دون ثقافة. ولا معنى لأي سلاح (في موازين القوى العسكرية) إلا لتلك القصيدة، وذلك الموّال، وهذا الملح. هنا ينكسر التوزان لصالح وجود غير قابل للاحتلال.
وعندما يتداول الفلسطينيون حكاياتهم، فكأنهم يتداولون المعرفة بوجودهم نفسه. يعززوه، ويتقنوه، وينبوا فوقه ألف وجود آخر.
من هنا يُنْبتُ جذرُ المقاومة زيتونةً غير قابلة للاقتلاع.
لا يحتاج الفلسطيني سلاحا عسكريا لينتصر. إنه يملك المعنى، كما يملك النشيد، ليملك كل ما يجعل المقاومة وجودا راسخا في الأرض وفي اللغة.
اسخر من الإسرائيلي، تقتله. اذهب إلى معناك، تفضح زيفه. قاوم، وستراه أعزل، حتى وهو يتناسل داخل دبابة.
أما وجودك فاحتفل به. اقم عرسا. اعقد ندوة. غنّي. ارتد أحلى ما لديك. تباهى بثقافتك. اقرأ. وارفع شأن ما يجعلك مختلفا. الفوز لك. فعبر اختلال القوة الصارخ بين الحقيقي والمزيف، يتقرر المستقبل بين الراسخ والعابر.
وقد يمكن للاحتلال أن يُفرّق فيما بين الفلسطينيين. هنا حاجز، وهناك مستوطنة، وهنالك جدار. إلا أن الفلسطينيين ظلوا يتحدثون اللغة نفسها، ويغنون الأغنية نفسها، ويأكلون الطعام نفسه.
ها هنا مكمن المشكلة التي ما بعدها مشكلة بالنسبة لإسرائيليين بالكاد صارت لهم لغة، من دون أن تكون لهم فيها ثقافة مشتركة! وكل منهم يغني على موال.
فهل تخاف على فلسطين؟
اذهب إلى كل بلدة وقرية عربية تم احتلالها منذ العام 1948، وسترى، أن القصيدة تصدح، إلى اليوم، بالمعنى نفسه الذي تصدح به في رام الله وغزة.
ولكن، هل تعرف كيف؟
لأن مقاومة الثقافة، أكثر بلاغة، وأبعد إبلاغا، من مقاومة السلاح.