د. عبدالحق عزوزي
السفير والمستشار محمد بن عبد الرحمن البشر واحد ممن أعتز بصداقتهم ومعرفتهم، فزيادة على خصاله ومزاياه الدبلوماسية المشهود له بها فهو نعم الأديب ونعم الطالب المجد ونعم العالم والأستاذ المقتدر ونعم الباحث المتعمّق ونعم الوفي المخلص. كما أن تقاليد المملكة العربية السعودية الجميلة وعاداتها النبيلة وطقوسها العريقة والأصيلة لم تفارق يوماً سلوكه وتصرفاته ونمط عيشه. إنها مظاهر عديدة لديه تبهر العين وتغري السمع في حديثه المشوق وأمثلته الرشيقة وجلساته المفيدة وحكاياته الجميلة المستمدة من عمق التاريخ والحضارات الراقية. وأنت تجالسه وكأنك أمام حرفي فنان أو راوية دقيق الأحداث في بساطته وخفة دمه، خبرته التجارب والأحداث المجتمعية المتنوعة ناهيك عما يفيض به علماً وثقافة ووطنية ونكراناً للذات. وليس ذلك بغريب فهو ابن المملكة العربية السعودية أصلاً ومولداً وأسرة ونشأة، فأنعم به ابناً وأنعم به نموذجاً وأنعم به رجلاً للافتخار به. في السنوات الأخيرة كلما زرت أبو ظبي للمشاركة في ملتقياتها الفكرية، أو لإعطاء محاضرة إلا وزرت مكتبه، وأسعد لذلك أيما سعادة لأنني أجد فيه نموذج الدبلوماسي العالِم الذي يُذكرني بأسماء وازنة عرفتها صفحات العلاقات الدولية، جمعت بين الممارسة الدبلوماسية والاستشارية في أعلى تجلياتها، والعلوم المختلفة من أدب وعلوم إنسانية واجتماعية وعلوم حقيقية جادت فيها وألفت وبرعت، فكان هؤلاء الدبلوماسيون نعم الممثلين لدولهم ونعم الصيت الذي حظوا به لأنهم رفعوا أعلام بلدانهم عالياً ليس فقط بدبلوماسيتهم، ولكن بفضل منشوراتهم وكتبهم والبريق المتلألئ الذي يتركونه في الخزانات والعقول وتطور العلوم، لتكون بذلك كلمتهم مسموعة ومصالح بلدانهم مقضية.
وكلما التقيت بالبشر إلا وازدادت قناعتي بأنه مؤرخ كبير ومنقب ثاقب وباحث عميق.. والأجمل من ذلك كله، ذلكم الأسلوب السلس الرائع والبديع سرداً وكتابة مما يجعل كل مستمع إليه أو قارئ لإنتاجه مشدوداً إليه بكل عناية وإمعان بل وبتذوق وشوق.
في آخر لقاء لي به، أهديته كتابي الأخير له «لماذا تخلف العرب وتقدم الآخرون: جذور الاستبداد وبذور النهضة» الذي سبق وأن كتب عنه في هاته الصحيفة الغراء، وإذا به يهدي لي كتاباً أخرجه وحققه لمؤلف مجهول من أهل القرن السابع الهجري اسمه أنس العاشق ونزهة الشائق ورياض المحب الوامق، ويعتبر مصدراً فريداً لمجموعة من الأشعار التي لم ترد في الكتب الأدبية، ولم يسبق لراوٍ من رواة الشعر ذكرها، وذلك ما حفزه إلى إخراجه، لأن مثل هذه الأشعار المغمورة هي كما يكتب، التي يريد إضافتها إلى سجل تاريخ الأدب العربي، الذي كثيراً ما عنى نيل الأيدي وتظلم النوايا السيئة التي تصدت له بالإحراق والضياع. وأما ندرته في بابه فلأن تاريخ تأليفه متقدم، ويرجع إلى بداية العهد المريني بالمغرب الذي كان فيه السفير البشر سفيراً فيها فأحب المغاربة وأحبوه.. وعلى الرغم من انعدام المعلومات المتعلقة بالمؤلف (اسماً وعصراً ووفاة) فإنه باستقرائه الذكي للمتن استطاع تحديد العصر الذي عاش فيه مؤلفنا المجهول، وذلك لوقوفه على قرينتين مؤكدتين هما:
- أنه كان معاصراً لسارة الحلبية الشاعرة المتصوفة المتوفاة عام 700 هـ، لقوله عند ذكرها: «ومن المتظرفات من أهل عصرنا سارة الحلبية».
- أنه عاصر عبد العزيز المللزوزي، الشاعر المغربي المشهور المتوفى عام 697هـ وذلك لقوله: «أخبرني عبد العزيز المللزوزي»، فهاتان القرينتان تدلان دلالة قوية على أن صاحب «أنس العاشق..» مغربي من أهل القرن السابع للهجرة. وقد كان إثبات مغربية هذا الأثر الأدبي قد زاد السفير البشر تشجيعاً على إخراجه، ونشره. وحوى الكتاب المذكور كثيراً من الأبواب، فيها طرافة ممتعة وفائدة لا يعلى عليه ومن ذلك ما قيل في الظرف:
قال ابن المعتز: الظرف هو العفاف عن المحارم كلها وانشدوا في هذا المعنى:
ليس الظريف بكامل في ظرفه
حتى يكون عن الحرام عفيفا
فإذا تعفف عن محارم ربه
فهناك يدعى في الأنام ظريفا
وقيل: الظرف العفاف والسيرة الحسنة وحفظ الأدب، وقال محمد بن خالد: الظرف حسن الخلق والعفاف والكرم. وقيل: الحسن والظرف أخوان والأدب والحب صنوان، والظرف والشباب شجرة ذواتا أفنان، فأول ما يجب على الظريف أن يتحلى بالأدب ومكارم الأخلاق وتهذيب النفس واجتناب أفعال العوام الخسيسة، منها أن يكون صموتاً من غير عي، متكلماً من غير إكثار ولا هدر، كما قيل:
الصمت زين والسكوت سلامة
فإذا نطقت فلا تكن مكاثرا
ولئن ندمت على سكوتك مرة
فلقد ندمت على الجواب مرارا
ومنها أن يجتنب المزاح الهجن، فإنه يورث الضغائن والأحقاد. وكتب عمر رضي الله عنه إلى عماله: امنعوا الناس المزاح فإنه يزيح عن طريق الحق. وقال الشاعر:
وإياك إياك المزاح فإنه
يطمع فيك الطفل والرجل الرذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه
ويورث بعد العز صاحبه ذلا