د.فوزية أبو خالد
بمناسبة محاضرة عن موضوع كتاب السعودية سيرة دولة ومجتمع - قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية الصادر عام 2010م عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، سألت نفسي السؤال التالي:
ماذا لو طلب مني كتابة مقدمة أو بالأحرى ما يشبه الملخص لكتاب عبدالعزيز الخضر فيما لا يزيد عن 500 كلمة؟! Abstract
وضعت التحدي المتخيل أمامي وتركته يصاحبني عن يميني وعن يساري أينما يمنت أو «تيسرت» لأكثر من 24 ساعة في يوم رمضاني حافل بالعطش وأطياف كؤوس الماء نهارًا، ومفعم بالعبادات أو مواعيدها وأشواقها ورغائبها المؤجلة ليلاً. ولكن الأنكى أنني لم أكتف بخيفة تخيل السؤال بل إنني حملت الفكرة محمل الجد وسرت في مسراها كما يسير من يقف في متاهة بيداء مترامية الأطراف خلف خيط سراب.
فماذا تراني سأكتب عن سيرة دولة ومجتمع وعند أي المفاصل في كل هذه الفسيفساء من التفاصيل الملساء الناتئة، الشرسة والشفيفية، الغامضة والبينة، الصاحية والنائمة والمتظاهرة بالنوم يمكن أن أقف؟!
ليس بحثًا بالمعنى الميكانيكي
لو أردت أن أدخل إلى هذا العمل كدراسة لتاريخ المملكة العربية السعودية السياسي والاجتماعي فسأبحث في النظرية والمنهج والأدبيات السابقة والمادة الميدانية والعلائق التحليلية بين التنظير والواقع.
غير أن العثور على هذه المحددات المعيارية لعلمية أي عمل بحثي أو نقد أي خلل في عدم الانقياد لها قد يبين الطبيعة المنهجية للعمل إلا أنه لن يكون كافيًا للكشف عن سر تلك الحرارة التي تجري في عروق الكتاب فتجعله وإن لم يخل من التكنيك المنهجي أقرب إلى التصوير الحي الفوار المتموج منه إلى المرايا العاكسة التي عادة ما تقتصر عليها المقاربات العلمية الصارمة. وإن كان لهذا الكتاب قابلية كبيرة لقراءته كدراسة. وربما على عجل أشير في هذا السياق لبعض نقاط تتعلق بسؤال المنهج في هذا الكتاب.
النقطة الأولى ترتبط بأسلوب الأشكلة الذي يطبقه الكاتب ميدانيًا لإخراج العين من كسلها في النظر للواقع كمسلمات وتدريبها للتفرس فيه من جديد بعين النقد والتساؤل لا بعين الرضا والتسليم. النقطة الثانية تتمثل بموقف الموضوعية التي أرى أن الكاتب لم يخضع فيها لنزعة المثالية العلمية التقليدية التي كانت تقول بالحياد البارد في العلوم الإنسانية بل جرب فيها بعض الأساليب المنهجية لتيار ما بعد الحداثة. وربما الميل الواضح لعدم شيطنة الآخر المختلف أحد مخرجات تبني الأفق التنظيري الجديد. النقطة الثالثة يعبر عنها المجاوزة بين الدولة والمجتمع في وحدات تحليلية متكافئة لا تعتمد منهجًا مقارنًا إلحاقيًا ولا تقنع بمعادلة أن المجتمع مجرد متغير تابع للدولة. وتتلخص النقطة الرابعة في الإشارة إلى توظيف إداة الملاحظة بالمعايشة وتحويلها إلى أداة ما يمكن تسميته الملاحظة بالمراقبة والمتابعة لجمع البيانات (مادة الكتاب الميدانية)، وهي ما يبدو أن العمل اعتمدها كواحدة من الأدوات الأساسية لسبر السيرة المزدوجة التي أقدم على محاولة تحليلها - الدولة والمجتمع. وإن كان في ذلك «توظيف بتصرف» خارج الصرامة العلمية المعتادة في تقنين العمل بهذه الأداة، فإنه قد يكون له إشكاليات منهجية إلا أنه ليس هنا مجال الجدل فيها أو المحاسبة عليها.
ليس رواية بالمعنى الاستيهامي
غير أن استبعاد تناول الكتاب كدراسة أو بحث علمي لا يعني إلا استمرار مطاردتي بتحدٍ كيف يمكن أن أتناول كتاب «السعودية سيرة دولة ومجتمع».
لو أردت التطرق لهذا العمل كرواية ليس بالمعنى الفني الخالص ولكن بالمعنى السيسيولوجي للسرد الإثنوجرفي، فإن هذا لن يقتضي فقط البحث عن مدخل وحبكة وعقدة وحل للعمل بل سيفضي إلى تتبع الحكاية وتخيل متوازياتها ونقائضها، حيث لكل دولة ومجتمع حكاية، بل أكثر من حكاية، فهناك الحكاية الرسمية وهناك الحكاية المتخيلة وهناك الحكاية المعاشة الخ... كما أن لكل حكاية أكثر من صوت للراوي كل حسب تجربته وموقعه وأدواره وعلائقه بمسرح الحكاية وأحداثها ولحظتها التاريخية وشخوصها الأخرى من أبطال وكمبارس. وفي رأيي أن هذا الكتاب فيه من الممازجة بين الحيادية والموضوعية وبين التورط والانغماس الشغفي ما يرشحه لأن يكون رواية شخصية لعدد متنوع ومتشابك من الأطياف الجمعية وليكون في الوقت نفسه وثيقة مكتوبة لواقع شفهي منتزعة بجدارة من فم الغياب التاريخي المريع لتعدد أصوات الرواة. هذا مع ضرورة الإشارة لتلك الجمالية التي تتكشف في حزمة التوترات التي تتخلل السرد وتتناوب على شد وجذب القارئ.
سفر إشكالي
ومرة أخرى إن كنت لا أرى تناول الكتاب لا كبحث ولا كراوية فكيف أواجه تحدي الكتابة عن هذا الكتاب وقد أوشكت على نهاية المقال
لو أصغيت لصوت خبرة القراءة ولنزعة الاكتشاف معًا في تخير الكيفية التي يمكن الدخول بها إلى هذا الكتاب، فإنني وبعد أن قمت بتدريس فصول متعددة منه لطالبات مقرراتي في علم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع المعرفة ومجتمع عربي سعودي لعدد من مستويات التعليم الجامعي لعدة سنوات، سأقوم من بين ما تقدم من ترشيحات بانتخاب مقاربته ليس باعتباره دراسة بحثية أو رواية إثنوجرافية بل باعتباره سفرا. كتاب سيرة الدولة والمجتمع هو في رأيي سفر ولكن ليس بالمعنى التوراتي أو القدسي بل على العكس من ذلك تمامًا فهو من وجهة نظري سفر بالمعنى الإشكالي ككل طرح تجريبي أو مجدد. أي أنه سفر معرفي يقدم نفسه كمحاولة وكتجربة وكاجتهاد بذلك الزخم الإشكالي المغاير لفرضية استتباب سلطة الأسس «البراديم» في منطلقات الفكر السياسي والاجتماعي وسلوكه اليومي. وهو عمل على طوله، مثل أغلب الأعمال الحفرية وإن اختلف عمق الحفر ودرجته ومجالاته (كشخصية مصر في عبقرية الزمان والمكان لجمال حمدان، ومتوالية مدن الملح للمنيف، وأجنحة فاطمة مرنيسي في السيسيولوجيا والأدب ونزعات حسين مروة وسوانح حمد الجاسر، ومكاشفات غازي القصيبي في عدد من أعماله ليس عملاً جامعًا ولامتعاليًا على النقد بل يتمتع بطاقة جدلية في تكوينه وفي التفاعل معه. وهو بهذه الطاقة الجدلية وإن كانت له رؤية ورسالة وفيه الكثير من التمثلات والأخيلة إلا أنه شفيف وملتبس، قطعي ومتذبذب، سافر ومقنع مثل كل الأعمال العصية على اليقين التي لا تريد أن تدعي كمالاً أو عصمة، إذ إن ازدهارها في النقصان الاستلهامي وفي الأسئلة للمعنى ولمجرد الأسئلة، كما أن استكمالها في الجدل الإيجابي والإخلاص النقدي
تجربة القيافة بالكتابة
أخيرًا لا بد من مساررتكم بأني أخال أحيانًا سفر السيرة جدارية معقدة تنبسط أمامي بساحلها الغربي بشاطئها الشرقي بسرواتها وسفوحها ووديانها بواحاتها الشحية وقحلها السخي، بحقولها العميقة من الآبار السوداء كما تتكشف للرائي من خلال اندلاعات اللهب وبصمانها ومغاراتها الخفية من المياه الجوفية كما يستدل عليها من قيافة ملمس الرطوبة في الرمل.
أخال سيرة دولة ومجتمع خريطة طريق لم تقتف بعد ولم تطبع عليها آثار أقدام، كأنها طريق الشاعر الأمريكي روبرت فروست البكر التي لم تلطخها الأنفاس ولا الملامسة ولم تفقد رهجة الدهشة الأولى. فجاء عبدالعزيز الخضر ليرسم لخريطة الطريق ملامح ومعالم ولينحت فيها منعطفات حادة ومنحنيات معتدلة وخطوط مستقيمة أو عوجاء، بأشكال متنافرة أو متناسقة من الالتواءات والاستدارة ومن الانفتاح والانغلاق، وبنفس الشغف المعماري والتفكيكي قام بتأثيثها بإشارات مرورية وبجسور وكباري وبشوارع وساحات وبإعطاء أسماء للحواري وعناوين للأزقة (دخنة وحي الربيع، باب مكة، شعب عامر، المناخة، برحة القزاز...)، دون أن يعتم الصورة على عوادي الطريق وقطاعه ومخاطره أو يغفل صراعاته وكبواته أو يزينه بما ليس فيه. وهو إِذ لم ينس خفر الطريق وحراسه وضريبة المخالفات التاريخية لأنظمة المرور وفوضاه معًا، فإنه لم يأل جهدًا في إضاءة كل مسلك يسلكه المارة والعابرون معًا على هذه الطريق ومنها أو إليها. فنرى الجدارية مثل قصيدة محمود درويش عن القاهرة، البساطات على الأرصفة والملكات في خباء مختلف النخب، الزحام والوحشة، التمازج والعزلة، الملوك والصعاليك وما بينهما من حاشية وطبقات نرى جمود القمة وغليان القاع، الوجه والأقنعة، الفقراء والأغنياء ومن بقي من متوسطي الدخل، الجيش والشعب، الملتحي والحليق، الفقيه والمتفاقه، المسيس والسياسي، الشعراء والغاون، الإناث والذكور القوي والضعيف، القرى والمدن، المركز والأطراف المتسبب والمتسيد في تظاهرات اجتماعية عارمة متشابهة كحبات رمل متعددة ومتنوعة كأمواج عاصفة أو غيوم تسابق ريح.
أخال الجدارية أو صفحات الكتاب ممر ضيق من الوقت لإحداث شاسعة وأخالها وقت سرمدي لا تواريخ له ولا منتهى لوقائعه اليومية الصغيرة.
أخال السيرة محاولة لاكتشافنا كتابيًا. أخالها حياة تمثلنا وكأننا كلنا اشتركنا في كتابتها أو كأن علينا جميعًا أن نكملها أو يبدأ كل منا صفحة جديدة.