د.فوزية أبو خالد
كم يشبه شهر رمضان العمر، يبدأ مزدحمًا بالوعود والمواعيد والشجن والبشر، ولا نلبث في رفة هدب أن نجد كأننا كنا نقبض على أثير، أو نمسك شمسًا في مرآة، أو كأن كتابًا يسابق الأجل.
كأن أيام شهر رمضان على وجه التحديد هواء طائر، أو أغصان بها مس، أو عاصفة من عبير يركض في الدم منسكبًا عبر أشرطة الذاكرة أو مكرهًا؛ فيصعب الإمساك بساعة واحدة منها دون الاستعانة ببنات الخيال.
بين رؤية الهلال والهلال من لحظة نشوة حلول شهر رمضان إلى لحظة شهقة الوداع ما لا يمكن أن يكون ثلاثين يومًا، ما لا يمكن أن يكون في كل منها أربعة وعشرين ساعة، وما لا يمكن أن تكون ساعته ستين دقيقة، ودقيقته ستين ثانية.. لا يمكن أن تقاس دقات القلوب في الشهر الفضيل بالدقيقة، ولا يمكن أن يقاس النهار بالخيط الأبيض، أو يقاس الليل بالخيط الأسود؛ فليس من وقت يقاس بين لحظة الغروب ولحظة الشروق، وليس من وقت بين لحظة الإفطار ولحظة الإمساك، ليس هناك إلا سرمد لا يمس بمعيار الزمن المعتاد، ولا يعاش بنفس الوتيرة الرتيبة لترتيب الوقت (الفجر، الضحى، الظهر، العصر، الغروب، العشاء، الهزيع الأول، الهزيع الوسط والأخير من الليل السحر).. ففجة الفجر قد تستمر لساعات، ورابعة الضحى قد تذهب إلى القيلولة باكرًا، والعصر قد يبقى بعد العمر بسنوات، والشفق قد لا يكون لونًا للغروب، بل نهر كهرمان يمتد عبر عقود عديدة.
أما الغسق فليس خطوة أولى نحو الدجى أو تمهيدًا ليبسط السجى سلطانه على الليل إلى مطلع الفجر أو نهاية السحر. ليس في رمضان متسع لهذا التدرج المعتاد في تحولات الوقت. وفي هذا الخروج على منطق التسلسل الزمني يتحرر الغسق من حمولة التوجس منه، ويصير تلك اللحظة المنفلتة للتو من سطوة رحيل الشمس كموجة نجت من نحبها المحتوم على ساحل بحر هائج.
وفي كل الحالات يتحول الأذان لخمس مرات في اليوم إلى موجدة لتجديد مجرى الماء في العروق ومجرى الوقت في العمر ومجرى الطمأنينة في الجهاز العصبي ومجرى مطلق الزمن على لوح الأزل.
وبالمثل، تتحول أوقات التراويح والقيام إلى أجنحة قادرة على حمل أصوات المصلين سنوات ضوئية في رحلة معراج الأنفاس والابتهالات والدعاء إلى المستوي على العرش فوق سبع سماوات.
وإذا كنت ولو بشيء من التبسيط أستطيع أن أعثر معرفيًّا على نوع من «التفاسير» لأثيرية الوقت في شهر رمضان من خلال نسبية آينشتين في حركية الزمن كبُعد تكويني رابع من ناحية، ومن خلال راحة اليقين في ثبات المعتقد من الناحية الأخرى، فإنني أبقى قلبيًّا فاغرة الحواس كتلميذ لا يكبر على الأسئلة في حضرة «لحظية الوقت». والمثل الأوضح بل الأفدح في حالتي الميئوس منها في العلاقة بالوقت أنني لا أستطيع أن أفهم وجدانيًّا مدى انخطاف الوقت المتمثل في «لحظية العمر»، وإن عمَّر الإنسان أو عاش لما بعد العمر. فانخطاف أعوام العمر وإن بلغنا من العمر عتيًّا وكأن عمر أكبر معمر في الكون لا يزيد على عمر عود ثقاب، أو حياة فراشة، سيبقى في ظني لغزًا من الألغاز الربانية إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها. كما أن سؤال «لحظية العمر» - وإن طال - يبقى سؤال معمر، ولكنه لا يكبر، وهو من الأسئلة الوجودية القديمة التي لم تحلها نقوش الكهوف ولا الحروف السومرية ولا حنوط الفراعنة ولا قصائد الخيام وأبي نواس، ولا مسرحيات شكسبير، ولا انتظار صمويل بيكيت العدمي لجودو ولا كيمياء مدام كوري ولا حجر ضحك الكيميائي ولا إنا كرنينا ولا آلام فارتر ولا مقولات نيتشه ولا صوفيات جلال الدين الرومي ورابعة العدوية ولا معلقات امرئ القيس وطرفة بن العبد ولا تفجعات الخنساء ولا بردة علي بن أبي طالب ولا تشبيه سيدنا نوح عليه السلام للعمر بالمرور بسم الخياط وهو من عمَّر ألف سنة. وذلك هو نفس السؤال الملحّ حول «لحظية الحياة» الذي عبثًا حاولت مشاكسته تشكيليًّا لوحة الساعات لسلفادور دالي ولوحة الحرب لبيكاسو، وشعريًّا جدارية الوقت لمحمود درويش، والقصيدة اليتيمة لمالك بن الريب، وموسيقيًّا لحن الخلود لفريد الأطرش ولحن النهر الخالد لمحمد عبدالوهاب، وروائيًّا رواية ما بعد الغروب لمحمد عبدالحليم عبدالله ورواية بداية ونهاية لنجيب محفوظ ورواية المغزول لعبدالعزيز المشري، ومعماريًّا قصر الحمرا بغرناطة وتاج محل بالهند والأهرامات بمصر ومدائن صالح والبترا وتدمر.
وحين لجأت في هذا المقال إلى جوجل للبحث عن المعنى «اللحظي الانخطافي للعمر» فوجئت بما عثرت عليه من كم الأسئلة مقارنة بالنزر القليل جدًّا من كيف الإجابات. فقد وجدت ما لا يحصى مما يشبه المراثي على لحظية العمر، وما يشبه الهجاء في مراوغة الوقت، وما يشبه النسيب في التغزل بمفاتن مرحلة الشباب، وما يشبه النقمة في الحديث عن الشيخوخة، وما هو الهلع بعينه في الكتابة عن النهاية، وما يشبه ندبات الندم الدائمة في تناول تبدد العمر، وما يشبه ثقل الجبال في الكلام الوعظي عن اغتنام الوقت وعن قيمة السنوات وعن الزمن كمشروع استثماري ربحي وإن كان قصير الأجل أنى طال، إلا أنني لم أجد في أي منها وقفة تأملية كافية ولا كلمة واحدة شافية عن المعادلة المريعة التي تجعل من خمسين عامًا أو مئة عام عشناها أو قد نعيشها مجرد لحظة خاطفة، وكأننا كنا نقرأ سورة الكوثر أو سيرة أهل الكهف.
وكأن قصيدة الشاعر خالد الفيصل النبطية بإيقاعها البطيء العميق تعبير عن ذلك الانخطاف بإيقاعه السريع الطائش
مرت الستين والشايب طفل
توي أدرس في كتاتيب الحياه
مرت الستين ما زال الجهل
كل ما جيت أستره يكشف غطاه
مرت الستين فكري ماشتعل
كل ماشعل جذوته وقتي طفاه
مرت الستين دربي ماكمل
واقف في راسه اتأمل مداه
وسيبقى سؤال «لحظية الوقت» - على ما يبدو - جرسًا معلقًا لأجيال وأجيال على جدار الوقت. فالسؤال منذ كنت طفلة يتجدد سنويًّا عن السر الذي يجعل من ثلاثين يومًا في شهر رمضان تمر مرور البرق في السحاب. فما إن نلمح البريق إلا ويفرد البراق أجنحته ويطير لولا ما يعلق بأرواحنا من حلاوة الصيام. فما أشبه العمر بهذا الشهر الفضيل؛ فكل منهما يأتي ويذهب على عجل، وليس لنا إلا أن نقبل تحدي الامتحان قبل أن تنسحب الورقة من أيدينا على حين غرة.
تغريدة
وضع مساء أمس أ. زاهر عثمان على تويتر صورة تضم فقيد الوطن د. سليمان السليم وقبله فقيد الوطن د. أسامة عبدالرحمن - رحمهما الله -.
فكتبت كلمة تحت الصورة قلت فيها:
«صورة مؤثرة تعلن على الملأ أن الجيل الذي سبقنا بالدرجات العلمية العليا مما كان جديدًا على المجتمع السعودي بشهادات الدكتوراه وبطروحات التجديد الجريئة ها هو ذا مثل ما فعل عبدالعزيز الخويطر وأحمد الرشيد وغازي القصيبي يسبقنا قليلاً اليوم أيضًا. ولا بد أن تتابع هذا الرحيل يدعو الجيل التالي لهم للعمل في اللحظات الأخيرة على ترك بصمة أو ريشة قبل أن نلحق بهم. أكرم الله مثواهم في مستقر رحمته».