د.فوزية أبو خالد
ليست ديباجة
كتبت الأسبوع ما قبل الماضي وماتلاه مقالين في عدد محدد من شؤون وشجون الثقافة على الساحة المحلية بمجتمعنا السعودي، وقد قلت فيهما لم تغب عن سمائي لحظة الكتابة باقة من أسماء لعبت بكتابتها أدواراً صارخة هادرة أو أدواراً خافتة هادئة في محاولات التنوير على الساحة الثقافية المحلية وسط أجواء لم تكن دائما صافية ولا ممهدة ولا آهلة إلا بالأمل، ومع ذلك لم تقدر حق قدرها أو لاتعرف أجيال اليوم إلا النزر اليسير من جولاتها وصولاتها، أو من جرأتها واجتهادها، بعضها من أجيال مؤسسة وبعضها أجيال مجترحة.
أما جهد هذه الاسماء وتجديدها على الساحة الثقافية فسيكون موضوع أكثر من مقال لاحق. ومن هذه الأسماء على سبيل المثال القاص محمد علوان, عبدالكريم العودة، د. فاتنة شاكر ود.خيرية السقاف, الشاعر أحمد عايل الفقيهي والشاعرة هدى الدغفق وأخريات وآخرون بإذن الله.
وها أنا أتناول هنا قامة نزيهة في حب الوطن وفي دفع عجلة التطوير والتجديد السلمي.
صوتها تمثيل وطني عبر الأثير
لا أدري كم من جيلي وأجيال سابقة قليلا أو تالية قليلا لا يزال يذكر صوتا أنثويا جميلا بغيرغنج, جاد بغير تصلب، مفعم برهجة الصبح وبريق النجوم، يحمل مضمونا وليس مجرد حروف جوفاء ويخرج كواحد من أوائل الأصوات الإعلامية التي حضر بها تمثيل رمزي لنساء المملكة عبر الإذاعة العربية السعودية؟
هل منكم من يذكر ذلك الصوت المشتق من قطر الندى وأعواد الند, من ريشة القلم وحفيف ورق الكتابة؟
هل من ينسى صاحبة ذلك الصوت السلسبيلي وهي تنتقل بالمرأة السعودية من مضائق الصمت لرحاب الكتابة والكلام؟
هل من لايعرف تلك «النغرية» التي كتبت بصوتها لأول مرة عبر الأثير أجنحة وفضاء ودقت الجدران بحنجرتها ؟
قلمها مهر البدايات
هل هناك من لايعرف تلك المضيئة التي حفرت بحروفها وفكرها وروحها كل ما يعاند الظلام ويفضح مشتقات الظلام من تهميش وإقصاء وسكوت وسكون واستسلام.
هل هناك من لايعرف من استعادت أسماء النساء من الضمير المستتر حين كان أحمد السباعي يوقع مقالات في قضايا تعليم المرأة باسم بنت الحجاز وقدمتها كضمائر حية لاتنام على ضيم ولاتريد أن تعيش في ظل أحد أو تعتاش على الشفقات. فكانت من أوائل الكاتبات السعوديات اللواتي لم يلجأن للتوقيع بأسماء مستعارة، فكتبت ونشرت باكرا باسمها الثلاثي الصريح؟
هل منكم من سمع بجدارية اسمها نبت الأرض كانت تأتي على شكل مقالة رأي بجريدة الرياض وتحولت إلى كتاب؟
هل منكم من رأى رائحة تعرف بالحبر وتعرف بعرف الحبر وبطيب الحبر وبعنبر الحبر وبعود الحبر وبكلونيا الحبر وبأنفاس العشاق، كما تعرف بكل ما في الوجود من رائحة الوجد ومن شجن الموجودات؟
أنه ذك الحبر الذي كتبت به تلك الأديبة اسمها مع مي زيادة وجورج صاند وفرجينيا وولف وأمل جراح وغادة السمان وليلى عثمان وسبيكة النجار وحمدة خميس وفاطمة حسين وزينب فواز وفوزية بريون وآسيا جبار وسهير القلماوي ولطيفة الزيات وأمينة السعيد ولميعة عمارة وديزي الأمير وسلمى خضرا الحيوسي وخالدة السعيد وأسماء خضر وناديا تويني.
لست أقارن بالإنتاج ولا بطبيعة وشكل الإنتاج نثراً أو شعراً أجناساً أدبية قصصا وروايات أو كتابة مقال, ولكن اسم تلك الكاتبة السعودية يشرق مع كوكبة أسماء كل هؤلاء الكاتبات من الخارج ومن امتدادات الوطن العربي في إطار جرأة تلك الأسماء على اجتراح بداية ما لمسيرة حبرية أنى تعددت أشكال الكتابة أو اختلفت.
اغترابها للحصول على دكتوراه في علم الاجتماع
لا أدري كم من أجيال اليوم يعرف بنت رقيقة متوقدة خرجت من مُلاح مكة المكرمة، من حوريات أبحر بجدة, من صبايا البساتين بالطائف، من يافعات الينابيع والنخل بينبع من باسقات بدر والعوالي بالمدينة المنورة ومن مابين كل ما حول هذه المدن من جمال هاجع في القرى والهجر لتنتقل من المملكة العربية السعودية إلى ولاية كالفورنيا بأمريكا في الهزيع الأخير من عقد الستينيات الميلادية.
طفلة تنطلق من انبساط الصحراء وبساطتها إلى تموج المحيط وتعقيده. شابة صغيرة ترحل عن بلادها متحزمة بحياء البنات, محملة بأمانة التاريخ والجغرافيا في حب البلاد، مشغولة بالشغف، لتحط رحالها في حرم جامعة أمريكية في بلاد غريبة.
لاتهتم العاشقة لتجريحات رياح الغربة تغمس حواسها الستة عقلها قلبها كفيها جوارحها في نهر العلم الذي شدت الرحال من أجل صفوه ومراراته من أجل حلاوته وأحماضه لتعب من ذلك الكأس الذي تجرحت شفاه النساء في مجتمعها من شدة الظمأ إلى رشفة من منهله, فتقرر أن تدرس علم اجتماع عل فيه ما يشفي غليل الأسئلة أو علها تكتشف في نظرياته وعبر مناهجه العلمية ما يدلها على طريق التغيير الاجتماعي بما يطور مجتمعها وينصف النساء فيه.
لايُنسي الطالبة انغماسها الدراسي ولا مذاق الحياة الطلابية الأمريكية في أوج مد الستينيات بما كانت تموج فيه تلك البيئة الجديدة من تيارات معرفية وموضات تقلبية في القيم والعلاقات والمأكل والمشرب والسكن ومن صيحات سياسية واجتماعية وتجديد شبابي وتصادم جيلي وثورات تقنية, أن لها رسالة محددة في الحياة نحو نفسها ونحو وطنها وربما نحو العالم. فمن سيرتها الطلابية التي لم تسجل بعد «ويجب أن تسجل» بدا واضحا أن تلك الفوارق الحضارية بين الوطن الذي غادرته ولم تغادره وبين البلد الذي جاءت إليه قد زادت الشابة تشبثا بتلك الرسالة مع ما أخذت خمائر التجربة تضيفه على وعيها وحسها بالمسؤولية.
في نفس الوقت الذي بدا أن ذلك الزخم التعددي بأبعاده الفكرية والميدانية لم يستطع أن يبتلع الصبية أويشتتها بل شكل معينا مكنها من امتلاك رؤية وطنية مستقلة وملتزمة بكل قضايا الجمال والحق والعدل التي تعتبر قضايا ملحة في أي تحول وطني تجديدي وإصلاحي في بلادها.
فاتنة أمين شاكر
أولا وليس أخيراً
هل لأحد ألا يكون قد عرف أن تلك المرايا المتعددة لمشكاة الضوء لبياض الفجر لسمرة الصحراء لأبنوس الليل لحمرة الأمل لبنفسجية الجراح لخضرة العشب لزرقة البحر ليست الا بضع لقطات مختطفة من مخالب الوقت لصورة السيدة الدكتورة فاتنة أمين شاكر في حضورها النابض لعدة عقود في قلب الوطن إعلامية وكاتبة وأستاذة جامعية.
رغم تجايلنا المتقارب، فقد كانت فاتنة القدوة والمثل والملهمة التي كنت أتطلع إليها ويتطلع إليها سرب من بنات جيلي ولأجيال تأتي.
بروح نسوية وإنسانية مفعمة بأخوة النساء في التسامي والتساند كتبت لي من أوجها كطالبة دكتوراه بأمريكا رسالة غاية في الرقة والرقي، وأنا بعد بالمرحلة المتوسطة ولا زلت في بداية مشواري الشائك على طريق الكتابة. كانت الرسالة العذبة مرفقة بصورتها بثوب التخرج من الماجستير. وقد أخذت تلك الصورة معي اليوم التالي مباشرة بعد انتظار حر للغد إلى مدرستي الأولى المتوسطة وشاركني دهشتي ببهائها أستاذاتي وكل الطالبات وصارت حديث المدرسة وقدوتنا جميعا. بعدها أخذت «ماما « الصورة وبروزتها وعلقتها في صدر الجلسة. ولا زالت تلك الصورة من أعز ما أعتز به من يوم أن جاء والدها رحمه الله بصحبة والدي لبيتنا بحي الرويس بجدة وسلمني الرسالة والصورة بنفسه مع قصص اعتزاز لاتنتهي عن ابنته الفاتنة. ولعل ذلك اللقاء المبارك واعتزاز عم أمين بمنجز ابنته العلمي كان إحدى الشرارات التي شجعت «بابا» حين حان دوري ليسمح لي بالرحيل للدراسة الجامعية بأمريكا.
بجامعة الملك عبدالعزيز كانت أختي إحدى طالبات د.فاتنة، وإلى اليوم لاتكف عن تذكر بعض محاضراتها وأسلوبها المنهجي البارع في التعليم الجامعي ناهيك عما سمعته من شقيقتي، ومن العديد ممن نهلوا العلم على يدها عن تلك الروح الفذة التي تتمتع بها في التعليم وفي التعامل.
هذه هي فاتنة أمين شاكر قامة في الثقافة وفي الجدل والكفاح على جبهة الثقافة.