د.فوزية أبو خالد
خلصت في مقال الأسبوع الماضي إلى أن القول بأنه بينما تشهد الساحات الثقافية عادة تواشجًا من جدل العلاقة بين أجيال المثقفين المجددين والأجيال الجديدة للمراحل المختلفة من عمر التاريخ الاجتماعي، بما ينتج الاستمرارية والقطيعة المعرفية الإيجابية في نفس الوقت, فإن خللاً معرفيًّا يعتري علاقة الأجيال الأولى والتالية على ساحتنا الثقافية بما يرجع لأكثر من عقدين مضيا، ويمتد إلى اليوم. ولهذا فقد تراوح طروحات المثقفين عبر الأجيال، وتعاني من التكرار والاجترار بدلاً من التقدم فيها والإضافة عليها. وقد رأيتُ في تناول هذا الموضوع ضرورة التسلُّح بالأسئلة لبحث الأسباب. ومما كتبته في قراءة هذا الوضع القول بما شهدته الساحة الثقافية خلال العقود الثلاثة الماضية من ظاهرتي التصنيف والجهل. كما قمتُ أيضًا بمساءلة مسؤوليتنا الأدبية والفعلية عن المحصلة المرة التي قاد بها تضافر كل من الظاهرتين أو تناوبهما عدد من مثقفي ورموز كتابة الرأي والكتابة الأدبية والشعرية على الساحة الثقافية المحلية للوقوع بين سندان التصنيف الأحادي الإقصائي ومطرقة التناسي الجهلي وليس بالضرورة العمدي لأدوار مستنيرة توعوية وتغيرية، لعبتها كتابات عدد من أولئك المثقفين عبر عقود عدة. وإذا كانت طبيعة الظرف السياسي في تأثيرات ما بعد 11/ سبتمبر 2001م على مجتمعنا السعودي وقبلها الصدمة السياسية بضربات الهجمات الإرهابية محليًّا، التي شكلت مؤشرات للانتقال من استهداف الرموز الثقافية قولاً لاستهداف المجتمع والدولة عملاً، قد خففت نسبيًّا قبضة ظاهرة التصنيف الإقصائي عن رقاب الكثير من المثقفين, ورفعت الحظر المعنوي والفعلي الذي واجهه المثقف العضوي إبان الصحوة, وذلك بمحاولة الدولة استدراك الموقف عبر خلق مظلة الحوار الوطني وتخفيف نسبي لرقابة الكلمة وقتها, فإن ذلك لم يقضِ على الظاهرة كليًّا، بل إن بعض المثقفين ممن لحقهم ضرر التصنيف لم يستطع أن يتخلص من تبعاته الإقصائية تمامًا إلى تاريخه، خاصة في ظل استمرار جيوب متخفية لتوجه الأحادية الإقصائية في أكثر من مؤسسة علمية وثقافية. ومن الأمثلة على ذلك ما آلت إليه مطالبات رد الاعتبار لأطروحة الدكتور سعيد السريحي العلمية.
أما بالنسبة لظاهرة جهل أو تجاهل الجهود الثقافية التجديدية للأجيال السابقة فلا تزال هي الأخرى قائمة بل على استفحال. وقد رأيت في مقال الأسبوع الماضي أن هذه الظاهرة لم تكن فقط بسبب غمة الوعي التي حجبت رؤية أي جهود توعية وتغيرية لأجيال نهاية القرن العشرين من جراء ما لحق بذلك التاريخ في عقديه الأخيرين من تلويث مناخاته بالضجيج المضاد, لكنها كانت أيضًا نتيجة لتشظي معظم إنتاج كتابة الرأي والكتابات النثرية والشعرية لأجيال تلك المرحلة في الصحف والمجلات.
وكان بودي في هذا السياق أن أوجه إلى وزارة الثقافة والإعلام «ووزيرها الشاب الذي ليس من تلك الأجيال» الدعوة للم شمل ما يستحق من ذلك الإنتاج في كتب يتولى تحريرها أصحاب ذلك النتاج، خاصة أن معظمهم أحياء في شرخ العطاء، وإن خفتت أسماء بعضهم نظرًا لما تقدم أو لأسبابهم, إلا أن تجربة خاصة في محاولة الحصول على «فسح الوزارة» لنشر كتب مكونة من مقالات سبق نشرها في الصحف وكتب لبحوث سبق نشرها في دوريات أفادت بأن سقف الوزارة لا يزال أكثر انخفاضًا، وصدرها أضيق سعة من تلك الأوعية. هذا بالطبع إلا إذا كانت «هيئتها الجديدة للثقافة» تنوي تبني موقف جديد إيجابي تجاه حرية الكلمة, فإن هذه المهمة في هذه الحالة قد تكون أحد اختبارات التأسيس لمصداقية مفقودة.
يبقى أنه ما زالت هناك عوامل عدة لتبحث من قِبل المهتمين في سبب ظاهرة الأحادية الإقصائية مما قد مضى, وخصوصًا لأن الفكر الذي يقف خلفها وأيديولوجيتها لم يختفِ وإن استترت, بل إنها لا تترك فرصًا تصفوية إلا وتسارع لانتهازها.
وللأهمية نفسها فلا تزال هناك أيضًا ضرورة لبحث أسباب ظاهرة جهل أجيال جديدة بإنتاج ومواقف توعوية وتغيرية مستنيرة لأجيال سبقتها رغم أن تلك الأجيال لا تزال حية تُرزق، تكتب وتعيش على نفس الساحة الثقافية. ونرى بعضها لا يزال ينافح قابضًا على جمرة الإبداع والرأي، وبعضها بين مد وجزر، ولكن أيًّا منها لم يغب أصحابها تمامًا بعد، أو على الأقل لم يغيبهم الموت والحمد لله. وبهذا الصدد نجد أكثر من أطروحة من بحوث التحليل الاجتماعي/ السيسيولوجي قد وضعت يدها بشكل مباشر أو غير مباشر على عينة من اعتلالات الساحة الثقافية المحلية وأسباب تشظي الأصوات التوعوية والتغيرية المستنيرة أو ضعف تأثيرها وخفوت حضورها كرموز في أواسط الأجيال الجديدة, ومنها البحث الطازج لكل من إيمان القويفلي وشمساء العقيل. ومن تلك البحوث ما يمكن أن يستنتج منه بعض الأسباب التي نبحث فيها. ومن أهم الأسباب بحسب بعض البحوث ضراوة الرقابة الذاتية بعد تجارب الإقصاء أو الاصطدامات التي صار يمارسها على نفسه بعض من مر بتلك التجارب من رموز الساحة الثقافية لفترات سابقة، وتضافرهم فيها ليس فقط مع رقابة النشر المفروضة من الجهات الرسمية للإعلام بل أيضًا مع رقابة فئات نافذة لتلك القوى التي تملك سلطات التأجيج والاستعداء بنوعيه التأليبي والترهيبي على الجبهتين الرسمية والأهلية.
أيضًا مما قد يكون من أسباب جهل الأجيال الجديدة بطروحات الأجيال التي سبقتهم وعدم اكتراثهم بالتعرف عليهم أو بالاعتراف لهم بفضل المجاهدة التجديدية على جبهة الكلمة الحرة، أو على الأقل الانخراط في جدل منتج مع طروحاتهم, تلك الفجوة الجيلية التي خلقتها الثورة التكنولوجية. وقد يقول قائل من منطلق صائب نقره بأن جميع الأجيال اليوم موجودة بقوة على شتى أشكال الشاشات الذكية من المواقع الإلكترونية إلى منافذ التواصل الاجتماعي, فأي فجوة جيلية إلكترونية تتحدثين عنها؟! وهذا سؤال مهم ومحفز للاستقصاء والبحث؛ فرغم وجود هذه الأرضية الافتراضية الشاسعة التي تستوعب كل الأجيال، وبسقوف عالية تتسع لاختلاف الطروحات, فإن ذلك لم يمحُ أمية الجيل الجديد بمن سبقه مباشرة إلا بشكل نسبي محدود جدًّا, بل إنه أيضًا من الناحية المقابلة قد حد من إلمام الأجيال السابقة بطروحات الأجيال الجديدة على الساحة الثقافية المحلية. وهنا لا بد أن أجادل بما قد يخال عكس أطروحتي التي ابتدأت بها، وعملت عليها في هذا المقال ومقال الأسبوع الماضي. فأجادل بأنه بعد أن كانت الأجيال الجديدة لعهود خلت تحتاج إلى التعرف عن قرب على الأجيال التي سبقتها، وتخلق خطوط تقاطع للالتقاء وللتمرد مع من سبقوها إن أرادت أن تخرج للعلن, فإن الأجيال الجديدة اليوم لا تحتاج لأي جواز عبور من الأجيال السابقة، ولا لأي خطابات تزكية أو توصية لتجد طريقها إلى أيدي القراء وأعينهم. وجدلي هنا أن هذا لا يعني رفع وصايات سلطة الأجيال عن بعضها البعض وحسب بل يعني - وهذا ما أجادل فيه وأراهن عليه - أهمية التدخل الإنساني إن صح التعبير لأنسنة هذا الفضاء الإلكتروني الحر عبر مخالعة العلاقات القديمة لا بتبادل التجاهل بين الأجيال، ولا بهيمنة أحدها على الآخر, بل بخلق أسس جديدة من المساواة والحرية في علاقات الأجيال ببعضها البعض على الساحة الثقافية كما على الفضاء الافتراضي. فالانتقال من الساحة الثقافية المحلية المحدودة إلى الفضاءات الإلكترونية الرحبة، ومن احتكار الرساميل الثقافية إلى شيوعها وعدالة توزيعها، يعني أننا أمام واقع جديد غير معهود من طاقة الحرية والعدل التي تملك القدرة على إعادة تشكيل العلاقة بين الأجيال على أسس خلاقة على غير ما عهدناه من علاقات رأسية تسلطية, وبما يوحي بأنه قادر على اجتراح ما هو أجمل وأجرأ من المعتاد. فهل نحن مستعدون لهذا التحدي ونحن نتحدث عن تجديد الرؤىأم أن أدوار البطولة الجديدة ليس لديها وقت لقراءة خيبة أو آمال من لا يزالون قابضين على شمعة في الخيال؛ لأن ذلك قد يقتضي ليس تغيير الشخوص فقط بل تغيير المعادلة كاملة في ضوء المستجدات؟!
لم يغب عن سمائي وأنا أكتب هذا المقال باقة من أسماء لعبت بكتابتها أدوارًا صارخة هادرة أو أدوارًا خافتة هادئة في محاولات التنوير على الساحة الثقافية المحلية وسط أجواء لم تكن دائمًا صافية ولا ممهدة ولا آهلة إلا بالأمل، ومع ذلك لم تقدر حق قدرها، أو لا تعرف أجيال اليوم إلا النزر اليسير من جولاتها وصولاتها أو من جرأتها واجتهادها, بعضها من أجيال مؤسسة، وبعضها أجيال مجترحة.
أما جهد هذه الأسماء وتجديدها على الساحة الثقافية فسيكون موضوع مقال لاحق. ومن هذه الأسماء على سبيل المثال القاص محمد علوان, عبدالكريم العودة, د. فاتنة شاكر، د.خيرية السقاف, الشاعر أحمد عايل الفقيهي، الشاعرة هدى الدغفق وأخريات وآخرون - بإذن الله -.