رمضان جريدي العنزي
سوريا جنة في أعالي السحاب، سرب حمام يغني، واشتياق يمشي على مهل، وحب يركض بكل اتجاه، وبرق يلمع في غيم كثيف إذا ما جن الغيم، والشمس تشرق بعد انبلاج الصباح، على جسدها الكرستال يتسلق خيط الماء، وغيمة الماء تسقط على رصيفها البهاء، مثل قطن سادر يستبيح الندى ولا يستفيق، شوارعها شجر الياسمين يبث عبقه ليستفيق أهل السبات من السبات، وثلجها حين يحل الشتاء ثلج رطيب، يغزل الليل، ويشهق فيه البرد الندي، ويطرب الغريب لصوت العندليب، ويكتب عندها الغريب القصيد، وبراعم تشرين تبتسم لتغريد الطيور، والفراشات تحط على أزاهير الغاردينيا، واللبلاب يعرش فوق أسوار البيوت العتيقة، وينمو على الأرض كما تنمو أعشاب البراري، وحدها خميلة النوار والدراق والبابونج، محاطة بالكينا وأريج الركوم، منظرها يجر إلى بهجة القلب، تنعش خمائل البدن، وفي ذروة حبور الحصاد، تهبط العصافير، تلتهم حبات القمح، ثم تعود إلى أعشاشها لتستريح، سوريا الآن مغسولة بالنحيب، مكسوة بفحيح الرياح، جمر وشرر وحزن يسيل في زوايا الجراح، في أرضها دم يسيل، وفي أركانها يطوف الغزاة، والطرق فيها مآتم، وحمص العذبة ما عادت حمص، ولا صافيتا صافيتا، ولا صلنفة عادت رونقاً وبهاء، ولا كريديش النهر يترع بالعطاء، زرع الغزاة في كل الأنحاء الفخاخ، جعلوها غبشاً يستغيث بغبش، والمجازر باتساع، والحقد الدفين سرى في الهشيم، والكوابيس فداحة، والحلم مكسور الجناح.
الغرباء اللصوص حاصروا سوريا من كل اتجاه، والأفاعي تنفث في أرضها السموم والفتن، أحرقوا مدنها بالرصاص، وخنقوا حدائقها بالغبار والعطن، والجثث ممهورة بتواقيع الجناة العتاة، منذ خمس سنين والوعيل يكبر عن العويل، والبدر في طاحونة المحن عليل، والطاغية بشار صنع من عظام الضحايا سلماً يرتقي به، ليسرق مفاتيح البهاء، ويجلس على دكة من أشلاء، والناس هناك تدور، البعض منهم مات، والآخرون ينامون الليل بوجل، وفي الصباح يغدون إلى طرقات الشقاء، ويرجعون في المساء وقد أنهك أجسادهم التعب، خمس سنين والشعب أدمن الدماء، ما بين رئيس يبيع به ويشتري، وبين لصوص غرباء، وحكومة بلهاء، خمس سنين والشعب ما بين حاكم طاغية، أجبر الشعب على الجوع والعطش، وما بين غرباء عتاة أحرقوا الحقل وأخذوا ضريبة الرهن، خمس سنين والشعب صار يتامى وأيامى وجيشاً من المعاقين على بطونهم يزحفون، لكنهم ما وهنوا ولا استكانوا ولا باعوا أجسادهم العارية لعابري الطريق، خمس سنين وأزمنة البلوى تمضي بهم، أحداقهم مكتظة، ويحملون معهم مفاتيح العبور، وقميص يوسف، وعربات العويل، يعيشون في باطن الأرض، بلا سراج ولا تنور، ويلصقون على بطونهم الحصى، ويأكلون بقايا البذور، خمس سنين وهم لا يرون طريقهم إلا من خلال أشلاء الضحايا، أحزانهم لا حصر لها، لكنهم يضحكون لأن البلهاء لم يقدروا أن يقضوا عليهم، ورغم نظرات الغراب اللعين، واللص السمين، والثعلب الماكر، ودوائر النار، نرى السوريين الأحرار يزرعون الورد على أعتاب البيوت، ويبحثون بأمل عن الشمس تشرق صافية فوق دمشق، وهواء عليل يهب من جبل الشيخ وقاسيون، وماء عذب يسيل من نهر بردى، لكي يزرعوا الحقل الكبير بالحنطة والقطن وعباد الشمس وأعواد القصب، هم يكتبون كل صباح على جدار المنازل، رغم الرماد، والجمر الذي تحت أقدامهم، وصرير الريح الذي يلف خارطة البلاد، بأنهم سيصبرون حتى يزال الغبار، لأن حياتهم قوية في جوهر الأشياء، سيعودون مثل جندي عاد من حرب بغيضة، لا يساومون، سيعيشون مجدداً، ويقاومون الطاعون، ويأكلون ما تيسر، ويقرأون بعض الكتب، ويملأون الأرض حرثاً ونسلاً وعدلاً، ويعود كهلهم طفلاً، لقد سئموا حياة الحروب، سيرسمون حياتهم بالألوان، ويرتقون زحلاً، مثل نوح، تحدى وقاوم، وأودع في الأرض سراً، وأبحر في اليم، لترسو السفينة، والتقى الناس شملا، سيبنون بلادهم بعد أن يطردوا منها اللصوص البغاة العتاة، سيجعلون منها مجرة، يحجإليها هواة الاكتشاف، سيجعلون منها حلماً شاهق الإحساس، سيعلنون الحب على كل حاضر وغائب، سيجعلون منها حبات كرز، بعد أن يزيحوا عنها الليل البهيم، سيعيدون فيها زراعة التوت مقطراً ببخور الحياة، سيجعلون نوارس البحر تناجيها، من على أرخبيلات الجزر، بعيداً عن غدر التماسيح اللعينة، سيعلون بأن ربيعهم على الأبواب، وسيقسمون بأن الطغاة لا حساب لهم في سوريتهم الجديدة، سيشربون الماء عذباً فراتاً قراحاً، على مائدة هزائم الطغاة القريبة. حتماً سيشربون.