رمضان جريدي العنزي
هي أمريكا ضوءها الذي كان يلهب العيون، ما عاد يلهب العيون، وفناراتها التي كانت لا تنطفي، ما عادت فنارات، بعد أن جاءت بالغدر والعتمة والبهت والخذلان، أمريكا التي كانت مدهشة ولماعة والتي تجبرك على فتح عيونك وذهنك وكل حواسك بأفعالها الزاخرة، ومفرداتها الشهية، ومدنها التي تشبه الخيال، وشمسها التي لا تنام، ما عادت ذلك أمريكا، رجعت أمريكا إلى عباءة الجاهلية، وعصور الظلام، صديد خراجها هو من أطفأ جذوة الحب، تغيرها وتقوقعها وسكونها هو من عطل مسيرة السلام، وشحن بطاريات التطرف بتيار الإرهاب، صوتها صار سنابك متأرجحة، أضرم في النفوس الغدر والخيانة، تمازج الحق عندها بالباطل، والألوان عندها تداخلت، والرماد في الوانها علا، عواصفها صارت حمقاء، تهب كيف تشاء، وعلى من تشاء، وتضرب من تشاء، لم يعد الوقار عندها وقار، ولا الحلم حلم، ولا التأني تأني، وعقلها صار عاطفة، أمريكا تغيرت، نزعت جلدها القديم، وبدلت طقوسها، وبدأت ترتل خطابها الجديد، صوتها الجديد أصبح مبحوحاً، وصداه انكسر، وعزفها منفرد، تحاول أن تولي نحو الفجر، لكن الفجر أفل، تحاول أن تغلق باب الخطيئة، وعطش الفجيعة، وتفتح ذراعيها لأناس جدد، لكن رهان التحدي عندها سيصبح مثل نار مشتعلة تحت غيمة، ستبقى النار مشتعلة، لكنها حتما ستنطفئ، قلبها عند حنجرتها، وصوتها حبال رقيقة، مجدها تدنى للهشاشة، وشواطئها صارت زبد، بعد أن فتحت صدرها أبواباً مشرعة للمخربين في بطون التاريخ المزيفة، وفق مسرحيات هزيلة ثقيلة، أعتمت عينيها الغشاوة، بعد أن كان نظرها ثاقباً، وعقلها كبيراً، وسيفها مسلطاً على رقاب المجون، روحها أصبحت متعبة، وجسدها صار منهكاً، بعد أن ضاجعت الحيات في الجحور، وأستأنست للضباع في الأدغال، متوحشة صارت أمريكا تبحث عن ملاذ أخير، تود غسل العطش بمرثيات الدموع، جراء الحروب، تزحف نحو الجروح، وتوقد الشموع، تدير المواجع، تنبذ البلبل، وتطرب لصوت الغراب، ضيع اللعب صوتها، بحرها تحجرت أمواجه، وشجرها ما عاد ثمر، ضيع المدلسون رقصها، بعد أن حملتهم على أكتفها، والأميون عندها تسيدوا منصاتها، يلقون محاضرات الغش والتدليس فوق مسارحها، والمهرجون من حولها تنفننوا بالتهريج على أرصفة الدروب، الدجالون عندها صاروا مثل الحصى، وكذبهم عندها صار حقيقة، والجاهلون بلا عقول صار لهم عندها كلام وموقف، لكن سيبزغ الفجر، وينجلي الظلام، وسينكشف مزورو الوثائق، سيرحل الدجل، وستظل تخفراياتنا، وستبقى نوافذنا مفتوحة للشمس، وأبوابنا مشرعة للقمر، وسنبقى ثراء المنجز، وسخاء العطاء، وستبقى عقولنا عقول، ومعاصمنا معاصم، وأقدامنا ثبات، وأخلاقنا سعة، وسلالنا ملأ، ومواسمنا حصاد، سنبقى الدليل والكبرياء، ولن يروعنا أشباه الطيور، ولن يضيمنا الدجل، سنكون معتصم الخائفين، وعون المقيمين، وننبذ كل علقمي أجير، سنسير ونفوسنا أباه، فيها النخوة والكرم، وخيبات ظننا في الآخرين ستزيدنا ثباتا، وسنبقى نجوما مع الأنجم، ليوم القيامة، ولن نسأم، سيحتار فينا العارفون بكل لغاتهم، من الفاهمين إلى الأفهم، فنحن الأصول، وغيرنا فروع، وبرعمنا أنقى برعم، وصفاتنا زين الرجال، نفاخر بلساننا اليعربي، مناراتنا تتسع بالضياء، تضيء الغيهب المعتم، ندل السراه إذا ما تاهو، ونقرأ عاليات الأنجم، ستعطش كل فصول غيرنا، وتبقى فصولنا زمزماً، سيبقى عبير بلادي وطهره، نقياً وله ننتمي، تفيض أرضنا كل عام، وأرض غيرنا بالنار تضرم.