عبدالعزيز السماري
يُعدُّ الخطاب الإعلامي السياسي مرآة للأفكار الحاكمة، وكان الإعلام العربي مثالاً ساطعاً على ذلك، فقد كان لعقود غارقاً في صياغة الأيدولوجيا ثم الترويج لها، وقد وصلت إلى مرحلة التسمم في زمن القومية العربية، وذلك عندما كان جمال عبدالناصر يطرح أفكاراً ثورية كردّة فعل على الهزيمة، وقام الإعلام بدور كبير في نشر تلك الأفكار، والتي أثبتت مع مرور الوقت أنها مجرد أفكار بلا محتوى، وكانت الكارثة..
كذلك كان خطاب البعث العربي مسلّحاً بأفكار طوباوية، وتحاول فرضها قوى استبدادية متناحرة، وقام الإعلام بدور خطير في تأجيج تلك الأفكار، وفي نفخ القائد الهمام إلى درجة الجنون، وكانت الكارثة بمثابة النهاية المثالية لمثل هذه الأفكار، والتي عادة ما تفتقد إلى العقلانية والعدالة الاجتماعية، وقبل ذلك إلى الطرح الإنساني المعتدل.
لم يكن خيار التثوير الإسلامي لاحقاً يختلف كثيراً عن حالة التسميم الفكري، والتي تُصاب بها المجتمعات في بعض أطوار تطورها إلى حيث مرحلة الوعي بالحقوق، وعادة ما تكون نهايتها الكارثة الدموية والإنسانية، فقد قدّم الفكر الإسلامي الجهادي أو الثوري الحل في فكرة القتال حتى النصر، وكانت تجربة أفغانستان بمثابة التجربة المزيفة التي صاغها المؤدلجون على أنها نصر من الله عز وجل..
بينما يدرك العقلاء أنها كانت حرباً استخباراتية تقودها الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي، لكن تصديق ثم ترويج فكرة النصر الإلهي أغرت المؤدلجين في إخراج عشرات الآلاف من الشباب للقتال ضد العالم.، وقامت منابر المساجد ثم الكاسيت الإسلامي بدور الإعلام المروج لتلك الأفكار، وانتشرت أفكارهم بين الشباب، ووجد المحبطون منهم فيها السبب المقدّس للموت والهروب من جحيم الدنيا إلى نعيم الآخرة.
كانت أشبه بثقافة الانتحار الجماعية، فقد تمزقت المجتمعات العربية بسبب تلك الأفكار الدموية، وغاب الإنسان بعد أن تحوّل إلى سلاح تدميري للذات وللمجتمع، ولهذا أصبح من المعتاد أن نسمع أحداث التفجير الذاتي في الآخرين، وذلك بتفخيخ الجسد، ثم قتل المجتمع الصغير الذي يكون فيه في تلك اللحظة، في مشاهد أقرب للعدمية التي تؤدي في نهاية الأمر إلى فناء الحضارات وخروجها من التاريخ.
المشترك في تلك الحقبات أن العقل العربي كان صيداً سهلاً لمختلف الأيدولوجيات السابق ذكرها، فقد كان حيناً من الزمن قومياً عربياً مهووساً بالحماسة والتخوين، وكان في زمن آخر بعثياً يقاتل من أجل انتصار الحزب، واستمرار الدكتاتور، ثم أصبح متديناً مهووساً برائحة الدم، إما مبايعاً لخليفة يسكن في المجهول، أو مهووساً بعودة الغائب من الكهف، وكان العامل المشترك فيما بينهم هو اللاعقلانية، وغياب الوعي الإنساني بالمرحلة، والسبب الأمية المعرفية التي تُسهل تدجين الإنسان لمصالح فئوية بدون وعي بمصالحه الذاتية.
في السنوات الأخيرة، تجتاز بعض المجتمعات العربية بصعوبة مسافة الانتقال من حال إلى حال، وعلى وجه التحديد يعيش بعضهم في منطقة ما بين العقل واللاعقل، وتستطيع مشاهدة تلك الصورة البينية في نشرات الأخبار وعلى صفحات الخطاب الإعلامي، فالفكر المؤدلج بالأفكار الجامدة والفارغة أصبح غير مقنع للكثير،.. ولهذا تسيطر على الإعلام الأفكار المضادة للأدلجة الثورية، لكنها تضعف كثيراً عند الحديث عن البديل..
وهل ستكون التعدّدية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية المخرج من تلك الضبابية.. أم هي أيدولوجيا جديدة يجري العمل على تصميمها، ليتسلل من خلالها اللصوص للسيطرة على الثروات الكبرى، ومن واقع التجربة العراقية والمصرية الحالية، نلاحظ فشلاً ذريعاً في صياغة أيدولوجيا جديدة لتبرير الاستبداد والفساد، ولازال الشارع يقاوم تلك الأفكار بالرغم من دفع صنّاع الأيدولوجيا تلك المجتمعات في اتجاهها، والله المستعان.