د. حمزة السالم
سماني والدي- رحمه الله-، وكان زاهداً حقاً ظاهراً وباطناً، حمزة، تيمناً بسيد الشهداء عم رسول الله حمزة بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. والدرعية لا تعرف حمزة اسماً يُسمى به ابنٌ من أبنائها.
فلما بلغت الصبا والمشاكسة،كان والدي- رحمه الله- يقول لي: للأسماء أثر على مسمياتها، ولقد حُذِرت من تسميتك حمزة فتكون عنيداً مشاكساً. ولعل هذا انعكس علي في السنة الأولى والثانية التي قضيتها في الكلية العسكرية. فلم أسلم فيها من العقوبات العسكرية إلا نادراً. وما أنقذني بعد ذلك من العقوبات، إلا تسلم المهام القيادية في السنة الأخيرة. فالمسؤولية تقلب سلوك الرجل من مشاغب فوضوي، لمنضبط مثالي.
وقد حرصت على الالتحاق بالوحدات الميدانية بعد تخرجي من الكلية. فقد ربى فينا والدي- رحمه الله- حب الجهاد والتطلع للشهادة، مع تصور مثاليات غرسها فينا، ليس لها وجود تطبيقي حقيقة في الواقع المعيشي. وكشاهد على هذه التصورات، أذكر أنه في الأسبوع الأول من التحاقي بالكلية العسكرية، كان هناك ضابط يحاضر علينا ويُحفزنا على الصبر والاجتهاد ببيان الفرق بين المرتب الشهري للخريج الجامعي والمرتب الشهري للخريج العسكري. فقاطعته بغضب، قائلاً: ليس على هذا التحقت بالكلية العسكرية. فرد متسائلاً: فعلى ماذا إذاً؟ فقلت للجهاد وتحرير فلسطين أوالاستشهاد دون ذلك. فإن أنس، فلا أنسى ابتسامته العريضة وتعايبر وجهه المشفقة والساخرة التي ارتسمت على محياه في آن واحد. ولم ينته بي الأمر عند ذلك، فقد اتصلت بالوالد- رحمه الله- أخبره الخبر الجلل، وأستأذنه في التبليغ عن هذا الضابط، فكنت أعتقد أن هذا واجب وطني لا يحق لي التغافل عنه.
ومن جنبات الكلية وميادينها إلى ميادين التدريب وليالي المشاريع العسكرية التي كنت أحلم فيها بيوم التحرك لفلسطين، ومع مرور الأسابيع والأشهر بدأت أصحو من أحلام الصبا. ولكن نفسي الدفاعية اللاشعورية، التي لا تريد اليقظة من الأحلام الوردية، سرعان ما وجدت لها حلما جميلا جديدا. فأرجعتني قرنين من الزمان لأجد نفسي في مهد الآباء والأجداد، في الدرعية الأولى، درعية الدولة السعودية الأولى. فعشت فيها بروحي ومشاعري وفكري أكثر من عشر سنوات، أحضر دروس الأئمة من أل سعود وعلماء نجد الأوائل. فكم صرفت من ساعات طوال، في جامع طريف، جلست فيها متعلما ومريدا بين يدي الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، -رحمه الله-. وكم من ضحوات غدوت فيها ورحت بين أسواق الدرعية وبيوتاتهم.
وللنفس سياسة التنقل بين الألم والسعادة، لإسعاد نفسها وتجنب الإملال في التكرار. فعند ثوران عز النفس، فكم حينها استمتعت باستنشاق غبار الجيش وأنا أسير في ركاب غزوات الإمام شرقاً وغرباً. وعند انكسار النفس التصوفية وهي في ساحات البيت العتيق فكم من دمع صببته في تلك الليالي الرمضانية، لاجئاً إلى الله بدعاء ابن معمر عند سقوط الدرعية، «أغثنا أغثنا واكشف الشدة التي أصابت وصابت واكشف الضر وارفعا»
وعندما تصفو النفس في الهزع الأخير من ليلة قد طال غياب صباحها، أجدني وقوفاً على أطلال لدرعية أنوح ببكاء ابن معمر: «مضوا وانقضت أيامهم حين أوردوا… ثناء وذكراً طِيْبُهُ قد تضوعا، فجازاهم الله الكريم بفضله جناناً… ورضواناً من الله أرفعا، فإن كانت الأشباح منا تباعدت… فإن لأرواح المحبين مجمعا».
وصدق- رحمه الله-، فقد اجتمعت روحي مع أرواح مع من أحب لأكثر من عقد من الزمان عشته، بروحي حقيقة، في الدرعية الأولى، لأخرج منها كارها مجبرا لأحط رحالي في بوسطن، أمريكا الحاضر، والحديث له بقية قد تطول.