د. حمزة السالم
أذكر أنني ذهبت لأمريكا حديثًا أجس نبض مدى تقبلهم لمشورة أجنبي في شأن من شؤون بلادهم الاقتصادية. فأنا أعرف، عن تجارب عدة، الكبرياء الأمريكي عند غلبتهم من أحد من الشعوب خاصة ممن تعودوا على الاستهانة بها.
وقد جاءني، يسعى مهرولاً، الأمريكي المخضرم بين الصناعة والسياسة وبين القيادة في الشرق والاستشارة في الغرب، يحسب أني سأقدم له طلبًا لمهمة استشارية مليارية عندنا. فتحدَّثت معه حول مدى إمكانية تقبل الثقافة الأمريكية لذلك.
وكثير من الأمريكان يمتازون بأنهم يحترمون عقولهم، فلا يجادلون في باطل ولا ينكرون حقيقة ظاهرة، ولهذا فرضوا احترامهم وثقتهم على طاولات المفاوضات. فلم يجادل الرجل فيما رأى أو ينكر إمكانيته وصحة منطقه، إلا أنه تلمس العذر لنفسه في إمكانية أن يكون هناك أشياء غابت عنه أو قد تظهر عند التطبيق. وظهور العقبات عند التطبيق أمر لا شك فيه ولذا لا ينجح عمل السُراق ولا تُحسن صناعة المقلد عادة.
ومن سُراق الأعمال والخطط، الشركات الاستشارية العالمية عمومًا. فهم يجوبون البلاد مسترزقين على فشل أهلها، قد تربعوا سدة القرار على أعتاب عدم ثقة أهل البلاد بأنفسهم وبأبنائهم. فيسرقون أفكار أهل البلاد ليدعوها لأنفسهم فيجربونها في بلاد أخرى، فتفشل لأنها عمل مسروق لا يدري أسراره إلا صانعه.
ولا يمكن أن يستسلم قوم للمستشار الأجنبي إلا إن لم يكن في ذلك عندهم غصة كبرياء. فصاحبنا الأمريكي الذي أتاني ساعيًا وغدا عني مهرولاً، لم يستطع أن يخفي كبرياءه الأمريكي، ويكتم غيظه وهو يرى أنه قد جاء صيادًا لصيد اعتاد سهولة صيده، فعاد طريدة مذهولة. فما وجد علي مسلكًا إلا أن قال بلدك أحق بهذا منا. وهو يدرك أن بلادي قد سقطت في هاوية فخ شباك المستشار الأجنبي. فرأيت أنه قد غلبني وغبنني، فما أهون من رجل هان عند قومه.
فما الذي دفع بلادي في أحضان المستشار الأجنبي؟ أنا أجيبكم عن هذا؟ لجأت بلادي للمستشار الأجنبي عندما نظرت لتاريخها فرأت أنه صدقها بينما قد كذبها أبناؤها الذين وثقت فيهم. لجأت بلادي للأجنبي عند ما لم تر في من وثقت فيهم من يقدم لها حلاً، بينما قد جربت بلادي المستشار الأجنبي فوجدت أنه أوجد لها حلولاً كثيرة على مدى عقود طويلة. ورأت بلادي في المستشار الأجنبي خلاصًا من تبعيات التنافس الهدام والحسد الظالم والغيرة العمياء بين من وثقت به من أبنائها.
وأجيب عن إجابتي فاقول لها: إنما صدقها المستشار الأجنبي عندما لم يكن من الذين طردوا من بلادهم بظلم أو بحق، فعادوا إليها تحت عباءة المستشار الأجنبي قد جمعوا بين السوأتين. وقد قدم المستشار الأجنبي لها حلاً في الماضي، لأنه لم يكن هناك شيء، فأي رمية تصيب فتخلق حلاً. وأما تنافس أبنائها وتحاسدهم، فإنما أوجده غياب القادر على تمييز الحكم العدل الصحيح. ازدهرت الاستشارات الأجنبية عندما رأت بلادي جيرانها ورأت عمل المستشار الأجنبي، وغاب عنها أنه ليس بعمل أجنبي بل عمل مستوطن يشير سيبقى.
ازدهرت الاستشارات الأجنبية لا لغياب المعرفة بل لغياب الفكر والمنطق والعجز عن الحكم على حقيقة الأشياء أو بطلانها إلا بمباركة الاستشاري الأجنبي. فيا ليت بلادي تعترف بأصل مشكلاتها فتعمل على حله، فالمرض لا يزول بتسكين الأعراض بل بعلاج أصل المرض.