د. خالد محمد الصغِّير
يلحظ المتابع عن قرب للحالة الاجتماعية السعودية في الفترة الأخيرة تحولاً نوعياً تمثل في نشوء مظاهر اجتماعية وغياب أخرى. ومن بين تلك المظاهر تنامي ثقافة الاحتفال التي زادت وتيرتها في الآونة الأخيرة بشكل ملفت للنظر، فأصبح الناس أفراداً وجماعات يسعون جاهدين لإيجاد الفرص لخلق أجواء احتفالية، أو يُعدّون أو يرتبون لحالة تتطلب تلقائياً احتفالاً يكون ختاماً لنشاط، أو عمل ما تم إنجازه. ويأتي الاحتفال بالنجاح آخر العام بين الذي تقيمه بعض المؤسسات التعليمية لطلابها وطالباتها، أو أهالي الطلبة أحد أبرز مظاهر الاحتفال الحالية. وهي احتفالات تتفاوت في حجمها ونوعها ولكنها جميعاً تشترك في أنها تعبير مباشر عن التهنئة بالنجاح، ورغبة في إعلان الفرحة بالإنجاز التعليمي الذي ترجمه الطالب، أو الطالبة باجتيازه مرحلة تعليمية والانتقال إلى أخرى، أو في أحيان بتكملة المسيرة التعليمية الجامعية برمتها، أو حتى على درجة دراسات عليا.
ويُعد الاحتفال بالنجاح وبالتخرج آخر العام لبنة في منظومة ثقافة الاحتفال التي كانت إلى وقت قريب ليست من بين الطقوس، أو السمات الاجتماعية التي تمارس على نطاق واسع داخل مجتمعنا السعودي. وهذه النزعة الاحتفالية أفرزت ممارسات إيجابية اجتماعية وتربوية مصاحبة لعملية الاحتفال تلك، يأتي على رأسها التعبير المباشر عن المكنون الداخلي، والتخطيط المسبق، والاحتفال بالإنجاز، وغرس مبدأ الدعم والتشجيع للأبناء والبنات.
يُعدُ عدم التعبير عما يجيش في الخاطر بصراحة ووضوح إحدى أبرز السمات السلبية للكثير من أفراد المجتمع السعودي؛ فالعديد منا جُبل على عدم التحدث بصراحة عما يحسه ويشعر به علناً، ولذا فكثيراً ما تجدنا نمتن لمن أسدى لنا جميلاً وصنع لنا معروفاً، وحقق إنجازاً عائلياً نفتخر ونزهوا به، ولكننا مع ذلك نتقاعس عن التعبير بشكل صريح وواضح تجاه ما تحقق. ومن هنا يأتي احتفال الأهالي هذه الأيام بتخرج ونجاح أبنائهم تعبيراً صريحاً وواضحاً عن مدى افتخارهم بما حققه الابن، أو الابنة وهو ما يمكن اعتباره كسراً لحاجز الصمت، أو كبت مشاعر الفرحة داخلياً، وهو سلوك اجتماعي سلبي يقود في معظمه إلى الإحباط نظراً لشعور المتخرج، أو الناجح بعدم معرفة وقع تخرجه، أو نجاحه على المحيطين به من أفراد عائلته ومن يهم أمرهم.
وهناك سمة اجتماعية سلبية أخرى يشترك فيها الكثير من أفراد المجتمع والمتمثلة بالارتجالية، وانعدام التخطيط المسبق لما نود القيام به من نشاط اجتماعي سواء كان ذلك صغيراً في حجمه كزيارة قريب مثلاً، أو حتى مشروع عائلي صغير والتي يتم تنفيذها والشروع فيها من غير ترتيب وتخطيط مسبق، ودراسة وافية لما نحن مقبلون على الإقدام عليه من نشاط اجتماعي. فما يُحمد للاحتفال بمناسبات النجاح أنها خلقت في الكثير منا مبدأ التخطيط والإعداد المسبق لكل جزئيات الاحتفال صغيرها وكبيرها واللذين بدونهما لا يمكن ضمان نجاح هذه المناسبة الاحتفالية التعليمية تحديداً، وفي كل أمر ننوي القيام به بشكل عام إذا لابد لنا من الاعتياد على التفكير المسبق قبل الإقدام على أي عمل ننوي القيام به حتى نضمن نجاح تنفيذه بنسبة كبيرة نظراً لقيامنا بالترتيب السابق لمناسبة النجاح والتخرج في ضوء الإمكانات المادية والموارد البشرية، ودراسة وتحديد الإجراءات.
الاحتفال بمناسبة النجاح في آخر العام أيضاً غيرت إلى حد ما الصورة النمطية لدى الكثير من أفراد المجتمع السعودي وهو أنه مجتمع يفتقد نسبة كبيرة من أفراده إلى ثقافة الاحتفال، إذ جاء الاحتفال بهذه المناسبة للتعبير عن البهجة والسرور، وخلق مناسبة تُعبر عن مدى حبنا للحياة، وتقديسنا لها، ورغبة صادقة في محاولة رسم الابتسامة على شفاه أبناءنا وبناتنا فرحة بحصاد عامل كامل قضوه في أروقة، أو سنوات عدة أمضوها في كلياتهم وجامعاتهم. وبالرغم من ايجابية هذا المنحى وفرحنا به إلاّ أننا يجب أن تعترف بأننا بحاجة إلى وقفات حيال بعض المسائل ذات العلاقة من مثل كيف نحتفل نترجم مفهوم الاحتفال على أرض الواقع بشكل يبعث على البهجة والفرح ولا يقود إلى ما يخالف ذلك، وبشكل ينم عن جهل تام في كيفية التعبير عن الفرح وحدوده.
وتتجلى رغبتنا في زيادة جرعة ثقافة الاحتفال ببحثنا الدائم عن الاحتفال بطريقة جديدة ومبتكرة والبعد عن الطرائق التقليدية الاحتفالية، والسعي دوماً للتجهيز لها بطريقة تتناسب ومكانة المناسبة، وأدى الابتعاد عن النمطية والقولبة الاحتفالية المعتادة إلى مشاركة وجدانية، ومعنوية واسعة من المحيطين بالمحتفى به، ولم يقتصر الأمر من قبلهم على مجرد تأدية واجب يترجم بالحضور الجسدي، أو الاكتفاء بإرسال رسالة قصيرة خاوية المضمون عن طريق الهاتف المحمول للمباركة للناجح، أو الخريج.
ومما أفرزته سمة الاحتفال بمناسبة النجاح آخر العام تأصيلها لفكرة الدعم والتشجيع التي هي إحدى أبرز الفوائد التربوية لمردودها الإيجابي المباشر في عملية التحصيل العلمي، وزيادة الدافعية نحو التعلم والاستزادة منه، بل والرغبة في التميز فيه. إلى وقت قريب كان هناك العديد - وفي رأيي المتواضع مازال عليه واقع حال الكثير - من الأسر التي لا تولي قدراً كبيراً لمبدأ تحفيز أبنائهم وبناتهم، ومكافأتهم على نجاحهم بطريقة ملموسة تتجاوز عبارات الإطراء المقتضبة التي تقال غالباً في إطار خال من مظاهر التشجيع، ولا تحاول أن تترجم فرحتها بطريقة عملية ملموسة يشعر معها الطالب، أو الطالبة بقيمة نجاحه، وتجاوزه لمرحلة دراسية.
وفي خضم هذا العدد من الإفرازات الإيجابيات الاجتماعية والتربوية المترتبة على شيوع ظاهرة الاحتفال بمناسبة النجاح تحاول الكثير من الأسر الجنوح بالمناسبة عن إطارها وحجمها الطبيعي وذلك من خلال الإسراف والمبالغة في الاحتفال. وهم بعملهم هذا يخلطون بين التبذير وحب المظاهر، والفرح والسعادة وكأنهم بذلك يبشرون بأن الفرحة لا تتم إلاّ من خلال المبالغة في الاحتفاء وهو الأمر الذي يقود في النهاية إلى زيادة في التكاليف التي تستنزف جيوب أولياء الأمور، وتحول الفرحة إلى حسرة تنسينا فرحة النجاح، أو التخرج لأبنائنا وبناتنا.
وهذا النوع من الاحتفال بالنجاح، أو التخرج، بل وحتى بروز أنواع أخرى من الاحتفالات يُظهر مدى التحول النوعي في مفهوم وموقف الكثير من أفراد المجتمع السعودي تجاه مسألة الاحتفال الذي كان إلى وقت قريب يرفض كل أشكاله، بل ويقصرها على الاحتفال بالمناسبات الدينية المعروفة وهو وعي يعكس نظرة أكثر انفتاحية مبنية على فكرة أنه طالما أن الاحتفال يتم بدون ارتكاب مخالفة شرعية فلا بأس من القيام به، وبخاصة عندما يكون له مردود إيجابي اجتماعي وتربوي يطال مناح عدة.