د. خالد محمد الصغِّير
في شأن التعليم الجامعي كثيرة هي القضايا ذات المساس بشكل خاص بواقع الطالب الجامعي اليوم، ومثلها كمًّا أيضاً المحاولات المبذولة لتقديم تعليم جامعي نوعي مرن يمنحه كمًّا معرفياً ومهارياً، يجعل منه مساهماً فاعلاً في رص لبنات التنمية الوطنية الشامخة. لكن في ظني أن هناك فجوة بحاجة إلى ردم حتى تُؤتي تلك الجهود أُكلها. ويأتي على رأس ذلك إجراء سُنَّ -مؤخراً- في بعض الجامعات قُصد به إعطاء مساحة من الخيار للطالب الجامعي، متمثلاً في منحه فرصة الانسحاب من المادة التي قام بتسجيلها مع بداية الفصل الدراسي وفق ضوابط مرنة وغير مقننة إلى درجة كبيرة، تُتيح حق القيام بذلك حتى قبل نهاية الفصل الدراسي بأسابيع قليلة. والممارسة الفعلية لهذا الحق المكتسب الذي أقرته الأنظمة واللوائح الجامعية تنبئ عن خلل في الاستفادة من هذا الحق المعطَى للطالب الجامعي. فما الأسباب التي قادت إلى تلك الممارسة السلبية؟ وما النتائج المترتبة على ذلك؟ وما الحلول المطروحة لتقويم هذا المسار المعوج وإعادته إلى جادة الصواب التي أرادها المشرع لهذا النظام؟ هذه الأسئلة مجتمعة تمثل المحاور الثلاثة الرئيسة التي يدور حولها رحى النقاش في هذه الإطلالة المقتضبة.
استقراء مشهد الواقع الجامعي الحالي يُظهر أنّ الطالب يقوم بالانسحاب من المادة متى ما شعر أنه تجاوز نسبة الحرمان المسموح بها، وبخاصة عند يقينه بعدم تساهل أستاذ المادة في التجاوز عن نسبة الغياب المسموح بها وفق الأنظمة واللوائح الجامعية المعتمدة. ومما جعل الطالب الجامعي -بعكس الحال قبل إقرار هذا الإجراء النظامي- لا يأخذ أمر الغياب المتكرر عن المحاضرات محمل الجد معرفته المسبقة بإمكانية انسحابه من المادة طالما أدرك أنه في طريقه للحرمان من دخول الامتحان النهائي للمادة من قِبل أستاذ المادة، وذلك من غير استشعار للضرر الآني الجسيم الذي قد يلحق به نظراً لقصور في بُعد نظره ومعرفته تبعات الإقدام على ذلك. وكشاهد على هذا التساهل -وإن شئت فسمِّه التسيب البغيض- العديد من الأمثلة والحالات التي وقفتُ شخصياً على حيثياتها؛ إذ كثيراً ما تجد الطالب، وبكل صفاقة، يُبرِّر غيابه المتكرر بأعذار واهية تنمُّ عن خلل في التعاطي مع هذا الحق النظامي الممنوح له؛ فهذا يقول إن سبب غيابه في الفترة الماضية كان يعود لوجود قرض سيارة عليه اضطره لعدم حضور المحاضرات من أجل التفكير في البحث عن كيفية سداده لهذا القرض! والآخر يقول إنه بصدد الزواج؛ فكان مضطراً للبحث عن سكن يجمعه بعروسه التي ينوي الزواج بها، وآخر يقول إنه انتقل من وظيفة إلى أخرى؛ فكان بحاجة إلى استقطاع وقت التحصيل والدراسة من أجل التأقلم على وضع مناخ الوظيفة الجديدة التي لتوه انتقل إليها.
والأمر لا يتوقف عند حد اللجوء للانسحاب من المادة في حال تجاوز نسبة الغياب المعتمدة، وإنما هو وسيلة لهروب الطالب من المادة متى ما شعر بأنّ الأستاذ
-كما يقول الكثير من الطلبة- «مزودها حبتين ومعطي المادة أكثر من حجمها ولذا وش لي أعوّر رأسي مع مثل هذه النوعية من الأساتذة». ومن هنا يلجأ الطالب للهروب من المادة على أمل أن يقوم أستاذ آخر، يُبدي مرونة غير مهنية تضر بالطالب ولا تفيده، بتدريسها بمنحى يقدم للطالب من خلاله كمًّا معرفياً بخساً، والنتيجة القاصمة للظهر هي «خريج تقذف به جامعاتنا مغلّف ببطالة مقنّعة، لا يفقه ما استقبل واستدبر من أمره شيئاً، أو كما نقول في مثلنا الشعبي «ما يفك الخط».
وإلى جانب هذين السببين الموجِدَيْن لظاهرة هروب الطالب الجامعي من بعض المواد التي قام بتسجيلها مع بعض الأساتذة، نجد كذلك أنّ ممارسة واستنفاد هذا الخيار الممنوح للطالب الجامعي اليوم يقود إلى أبعاد وتبعات سلبية، يأتي على رأسها مساهمتها في تكريس سلوك التكاسل وعدم الجدية اللذين نحن بحاجة ماسة لتجنيبهما قادة دفة مستقبل وطننا الغالي، الذين ينتظرهم الكثير من العمل الجاد؛ حتى يلحقوا بركب الأمم المتقدمة. الكثير من الطلبة الجامعيين يريدون الحصول على الشهادة الجامعية بأقصر الطرق، وبأقل مجهود يُذكر، ولذلك تجدهم يقومون بالابتعاد مسافات عمّا يبذل جهداً لتعليمهم وإعدادهم؛ كي يكونوا قادرين على مواجهة مستقبل أيامهم العملية بكل ثقة واقتدار. وليت هذا الطالب توقف عن الهروب عن هذه النوعية من الأساتذة، وإنما نراه يمارس إسقاطاً مخلاً، ينعت فيه هذه النوعية من الأساتذة ظلماً وعدواناً بالصعوبة، والتعقيد، وغيرها من الصفات التي يندى لها الجبين، لا لشيء إلاّ لأنّ هذا الأستاذ استشعر أهمية وظيفته التعليمية والتربوية، وراقب الله تعالى في عمله مخلصاً متفانياً؛ حتى يُقدِّم للوطن كوكبة نيّرة، تكون قادرة على مواصلة السير به في دروب الخير والنماء.
ومثلبة سلبية أخرى يمكن تدوينها من جراء منح مساحة وهامشاً أكبر لممارسة هذا السلوك بشكل أكثر، تنامت مؤخراً بشكل ملحوظ بين الطلبة الجامعيين، هي أنه بالنظر إلى المقولة المشهورة بأن الجامعات مصانع الرجال فهي -أي الجامعات- ستكون بذلك خالقة لجيل لا يرغب في المستقبل القريب في العمل والإنتاج في بيئة منضبطة تنتظر منه عملاً تحكمه لوائح وأنظمة لا تقبل التراخي، والتسيب، وانتهاز أنصاف الفرص، والبحث عن مخارج وفجوات للتملص والهروب من المسؤولية الملقاة على عاتقه.
والسبب في ذلك يعود إلى أنه عندما كان على مقاعد التشكيل، والتكوين، والإعداد وجد بيئة أسَّست فيه هذه السلوكيات غير المهنية التي يحملها ويمارسها على أرض الواقع. كما أن ذلك -في الوقت نفسه- يقود إلى هدر في الوقت، ومثله في الجهد البشري، هذا فضلاً عن مضاعفة في الأعباء المالية نتيجة بقاء الطالب مدة أطول في المرحلة الجامعية.
وفي الاتجاه نفسه نجد أن هذه الممارسة قادت أيضاً إلى منحى سلبي آخر؛ إذ جعلت البعض من الأساتذة يعمدون إلى فك شفرة هذه الرسالة بشكل خاطئ، وبخاصة من قِبل بعض الأساتذة غير السعوديين الذين برر البعض لأنفسهم -بما أنهم تحت مقصلة العقد، أو لنقل مطرقة العقد وسندان الإدارة والطالب- العمل وفق مبدأ السلامة، الذي يقتضي التدريس وفق ما يريده الطالب، أو بالأحرى التجاوب مع ما يريده الطالب من أجل ضمان إغلاق مُحْكم للنوافذ والأبواب التي يمكن أن يلج منها الطالب الجامعي مشتكياً متذمراً من أستاذه، ومن ثم المساهمة بالنظر في إمكانية إلغاء عقده! ومن هنا نجد هذه النوعية من الأساتذة تقدم كمًّا معرفياً ضحلاً قليلاً، وإبداء مرونة بل تساهلاً غير منضبط، قادا الطالب للبحث عن هذه النوعية من الأساتذة الذين يضمن بهم عدم تعثر مسيرته، بل في أحيان الحصول على نجاح ودرجات غير مستحقة البتة.
ومن هنا وجدنا منهم مَنْ ينحى لاختزال المادة العلمية في وريقات معدودة لا تتجاوز الصفحات العشر، وآخر يعلن لطلابه أنه لن يرسب في مادته إلاّ من يغيب عن الامتحان النهائي، وآخر يقرر قياس تحصيل الطالب في نهاية العام من خلال فقط جزء يسير من المنهج؛ حتى لا يثقل كاهلهم بمذاكرة ما تم تدريسه على مدار الفصل الدراسي؛ لذا كان من الطبيعي أن يهرول الطلبة بخطى متسارعة نحو هذه النوعية من الأساتذة في مقابل الهروب مما لا يقدم على عمل مماثل.
وهذا النقاش يُظهر جلياً أننا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في منح حق الانسحاب من المواد الدراسية في المرحلة الجامعية بشكله الحالي غير المنضبط، كما أننا أيضاً بحاجة إلى توعية الطالب الجامعي وإنارته؛ حتى يكون أكثر قدرة على اتخاذ قرار الانسحاب ضمن مبررات حقيقية.
وينبغي على المسؤول قبل أن يطلق العنان لمساءلة الأستاذ عن أسباب انسحاب الطلبة من مادته التي يقوم بتدريسها الإحاطة بجميع الحيثيات والمبررات التي تم الإتيان بها آنفاً، وليس الارتكان إلى إلقاء اللوم على الأستاذ وحده.