د. خالد محمد الصغِّير
كنت أحاول إقناعه بضرورة التحرك لإحداث تحول إيجابي، أو على أقل تقدير الصدع بكلمة الحق حيال المنهج الخاطئ الذي تُسيّر على ضوئه دفة الأمور في مكان عمله، فكان جوابه: «دعني أذكرك بمقولتنا المشهورة التي أضعها هذه الأيام تحديداً في إطار ذهبي أرمقه رائحاً وغادياً حتى لا أنسى العمل وفق
مدلولها «من ذل سلم»، أو المثل الشعبي الآخر القائل: «امشي جنب الساس تسلم»، ثم أردف قائلاً: إنها يا صاحبي بلغة العصر «الأمان الوظيفي» الذي ثمنه السكوت عن الخطأ الظاهر للعيان؛ فشخصي الضعيف بسبب ذلك يؤثر أن يغمض الطرف عن خطأ واضح في رابعة النهار حتى لا يجد نفسه بلا عمل يقتات منه صباح الغد. وهنا وجدت نفسي أمام تساؤلات عريضة مفادها: هل أصبح الجميع يخاف قول كلمة الحق حتى لا يكون جزاؤه المساءلة، والإبعاد من عمله مع ما قد يصاحب ذلك من التشنيع والتجريم؟ وهل هذا يؤسس لثقافة مجتمع يعمد أفراده إلى دفن رؤوسهم في الرمال خوفاً من سياط التهديد، والوعيد، والإقصاء؟ وهل هو إرهاص لشيوع ثقافة الخوف من إظهار الحق، وتمهيد لعلو كعب النفاق والتملق والمجاملة المفرطة والتبعية المختزلة؟ وهل هذا المسلك أداة لإعدام الأفكار المستنيرة بمقاصل الخوف قربانا للبقاء؟
والإجابة عن هذه التساؤلات أنَّ المشهد الحالي يوحي بالجواب الإيجابي لما تضمنته هذه التساؤلات؛ فالكثير الكثير منا في مؤسستنا أضحى يتحاشى إطلاق رأيه المشفوع بالدليل والبرهان حيال ممارسات غير سوية في نطاق عمله خشية أن يقع تحت مقصلة المساءلة، أو لنقل حتى لا يتم وضعه ضمن القائمة السوداء، أو تلطيفاً كي لا يكون من بين الأشخاص غير المرضي عنهم وبالتالي يحرم من فرص وامتيازات هنا وهناك. وذلك قاد في نهاية المطاف إلى تنامي ثقافة الانكفاء على الذات والخوف حتى من إبداء وجهة النظر تجاه ممارسات وسلوكيات خاطئة، ناهيك عن التحرك في ظل ما تسمح به الأنظمة واللوائح لتسجيل موقف حازم يعيد الأمور لنصابها ويصوب الممارسات غير السوية والنظامية. كما أنه أوجد أفراداً يدمنون الخضوع، والقبول والاستسلام، والانكفاء على الذات، وصناعة أدوات بشرية غير قادرة على التفكير، وعدم التفاعل الإيجابي مع محيط بيئات أعمالهم. وكذلك تصيب بمقتل بيئة العمل يتردى مستوى الإنجاز، ويبزر معها بطء شديد في الإنتاج، وينشل الإبداع والابتكار، ويشيع جو من الإحباط.
والظاهر أن هذا المسلك دُفع به ليكون واقعاً مشاهداً حسابات خاطئة من المسؤول ومن يعمل تحت إدارته اعتقاداً منهم أن الدورة الزمنية بظروفها المحيطة كما هي بالأمس القريب في مشهد عمل المؤسسات والوزارات. بعض المسؤولين الذين يعيشون خارج الزمن ما زالوا يديرون مؤسساتهم وفق ما تميله أهواؤهم، وبالطريقة التي تحقق مصالحهم الشخصية في المقام الأول؛ اعتقاداً منهم أنه ليس هناك حسيب ولا رقيب، وأنه بإمكانهم أن يبثوا سهام الرعب في نفوس من يجرؤ على فتح فمه منتقداً ومعترضاً منهجهم الإداري غير السليم من دون أن يطالهم سوء نظراً لأن شخوصهم الاعتبارية، وتمتعهم بالحصانة يحول دون مسائلتهم على تصرفاتهم. وعلى الطرف الآخر نجد أن الصامت الواقع تحت تأثير إشعاعات ثقافة الخوف المعتقد أنه بمجرد استعمال النقد كأداة للتقويم، وإبداء امتعاضه عما يُؤدى بطريقة غير نظامية في مؤسسته يعني الإلقاء به خارج أسوارها في اليوم التالي غير مأسوف عليه من غير إدراكه لحقيقة أنه مع تنامي العمل المؤسسي، ووجود عدد من المؤسسات المدنية، ومؤسسات حقوق الإنسان الأهلية، وصدور العديد من اللوائح والأنظمة والمرجعيات النظامية لم يعد الأمر بتلك السهولة كما يبدو، وبخاصة عندما يكون تحركه واعتراضه من خلال القنوات النظامية المعتمدة، وبعيداً عن الشخصنة والكيدية.
إن أركان المجتمع أمام مسؤولية كبيرة للعمل بكل قوة لقطع إمدادات ومغذّيات ثقافة الخوف المتفشية في كل حقول الحياة العملية الإدارية في المؤسسات الاجتماعية، والتربوية، والإعلامية، وغيرها من المجالات؛ لأن الفرد الباني الأول للبنات مجتمعه لن يكون له إسهام فاعل في مهمته الأولى المتمثلة في بناء مجتمعه والارتقاء به ما لم يُمنح قدراً من الحرية للتعبير عن خلل هناك وهناك داخل مؤسسته التي وجدت لتقدم خدمة نوعية لأبناء مجتمعه والسبب في ذلك يعود إلى أنه عندئذ سيكون مسكوناً بهاجس الخوف الذي يحد من وضع كامل طاقته وإمكاناته في خدمة الأهداف التنموية التي ينشدها مجتمعه، وهذا ما أشار إليه المفكر الأمريكي لورين دي بور (Lauren de Boer) من أن الطاقة البشيرة حين تظلل بالخوف تصبح مشوهة ومدمرة وبالتالي فإن كافة إمكانات النمو الإنتاجي تحديداً يتم تعطيلها، أو اختطافها بالكامل.
ومن هنا يمكن القول إن تكريس بيئة عمل مسكونة بالخوف يهدد العمل المؤسسي في العديد من أبعاده الإدارية المتمثلة في التقليل من الإنتاج، وقتل الرغبة في التفاني والإبداع، وجعل وتيرة العمل تسير ببطء شديد، وتقلص بشكل ملحوظ من طرح مبادرات وتقديم مقترحات جديدة نافعة من شأنها تطوير العمل، ومضاعفة الإنتاج فيه، كما أنها تغيب عنصر السعي للتغيير نحو الأفضل، بل وتقضي عليه نهائياً.
ومن هنا فنحن أمام تحد كبير للعمل بكل ما أوتينا من قوة لتحويل ثقافة الخوف في بيئة العمل إلى ثقة وتكريس ثقافة المواجهة المهنية لكي تكون مؤسساتنا محاضن لاحتواء، وتمنية، وصقل الثروات البشرة التي تسهم بتحقيق المسؤولية الاجتماعية والتنموية الملقاة على كل المؤسسات ممثلة بإداراتها العليا. بقي أن نقول في الختام إنه في ظل عصر الانفتاح، والشفافية، والتقنية الحديثة، والانفجار المعرفي، والعمل الاحترافي، وسياسية محاربة الفساد فإن هذا النهج الإداري التخويفي يعد منهجاً إدارياً بغيضاً ومستهجناً ومرفوضاً من جميع أفراد المجتمع الإداري لأن الخوف هو الأب الشرعي لكل آفات الجمود، ومعايب التجديد والارتقاء درجات عليا في سلم التنمية بكل مناحيها المتعددة.