د.فوزية أبو خالد
لا شك أن محمد بن سلمان استطاع في ثماني ساعات أن يخلق في الشارع السعودي على أرض الواقع وفي العالم الافتراضي نوعا من الاهتمام غير المسبوق بالخطاب الرسمي، بعد أجيال من الاهتمام الرخو أو اللامبالاة الانسحابية (ببعض استثناءات مضيئة من العهد السابق).
هذا كما أنه استطاع أن يشحن الشارع بطاقة من السحر الشفائي القادر على مداوات أي نوع من أنواع العضال السياسي والاجتماعي ألا وهو السحر الذي اسمه الأمل. وذلك في وقت اختفى فيه الأمل من معادلة علاقة المواطن العربي ككل بالسلطة وبالأنظمة السياسية العربية منذ أمد بعيد، وقد تمثل بعض ذلك كما يلاحظ فيما أقدم عليه من محاولة تعد ناجحة إلى الآن وهي محاولة خلخلة المخيال الغربي النمطي والمحلي أيضا عن صورة القيادي السعودي في أبهته الأبوية ليظهر في صورة أبطال اليوتيوب والمنتديات الإلكترونية الجدد من شباب السعودية اليوم مابعد الثورة التقنية وعلى أثر الربيع العربي/ الشباب الكوول.
فعبر مقابلتين في مطبوعتي دولتين/ الإيكونومست والبلومبرغ، في فترة قصيرة من السنة الميلادية الماثلة لعب القيادي اليافع المستجد على المسرح السعودي السياسي دورا رسميا خرج فيه على ماوجدته في بحوث سيوسيولوجية سابقة أبرزمحددات الخطاب السياسي السعودي وهي «اللغة المقتضبة والمضمون المختزل اليقيني، المواقف المحافظة الأقرب للسكون من الحركة، والاقتصاد في صور القوى الاجتماعية إما بإخفائها كما في صورة المرأة أو باختزالها في نخب أحادية من نخب التأسيس التاريخي للدولة مثل النخبة الدينية الرسمية ونخبة التكنوقراط الإداري، ونخبة الإعلام المعنية بإعادة إنتاج صوت السلطة والمعبرة عن المستتب والمقبول».
وبهذا تابعنا وتابع العالم معنا وجها قياديا مجددا للسعودية بينما يقود مواجهات عسكرية غير معهودة في أمدها وتعقيدها على حدود بلاده، وبينما يجد نظام بلاده نفسه في مسؤولية سياسية خطيرة لملء فراغات انهيار القيادات الإقليمية التقليدية منذ الحرب العالمية الأولى والثانية وأمام مسؤولية لاتقل خطورة لإدارة صراعات قوى عربية وإقليمية ودولية بخبرة لم تعتد إقحام نفسها بشكل مباشر في مثل هذه الصراعات، فإنه يبدي من الحدس السياسي ما يعرف به بأن الجبهة الداخلية في مثل هذه المنعطفات الحادة والمنزلقات المستنزِفة تشكل عاملا حاسما إن لم تكن العامل الأمضى في تقرير مصير المواجهات الأخرى مع الذاتي ومع الموضوعي من التحديات المحدقة. فالقائد العسكري الأعلى لجبهات ملتهبة حين يحرص على حضور «ملتقى مغردون»، وهو ملتقى شبابي تعبيري ليس إلا إن صح التوصيف، لا شك أنه يعطي انطباعا لن تخطئه القراءات السياسية المتأملة، وإن أدى التفخيم الإعلامي للحدث إلى شيء من تسطيح دلالاته السيسيولوجية، بأن هناك بحثا قياديا جادا وحاجة وطنية صادقة وملحة لنوع من التحالفات الجديدة مع قوى المستقبل على غير الأسس الرأسية الماضوية في التاريخ التأسيسي للمملكة التي ربما اقتضاها ظرف تلك المرحلة وسمحت بها اريحية ذلك الوقت لعلاقة «المعزب» بأهل الدار كضيوف.
ولهذا فإن عودة الاهتمام بالخطاب الرسمي في مادته الخطابية (الشفوية والمكتوبة) من قبل المتلقي السعودي ترتبط على الأرجح بما حمله حديث القيادي الشاب من تبشير بتغيرات إيجابية فعلية على مستوى الخطاب السياسي المعاش في حياة هذا المتلقي كمواطن سعودي عضوي بالمعنى الجرامشي وليس فقط كمتابع «تنفيسي» الكتروني للفضاءين الإعلامي والسياسي. فولي ولي العهد حين يقول إنه يحرص في حلم إعادة بناء قاعدة لاقتصاد وطني غير مرتهن لشرط وتذبذبات الريع البترولي ألا يكون ذلك مطلقا على حساب أغلبية المواطنين لصالح الأقلية الثرية بل العكس، فإنه لا يخلق بذلك سقفا وطنيا يقف عند حدود العشم الرعوي بل يلامس استعدادا وتوقعا شبابيا ومجتمعيا عاما لايرضيه أقل من الشراكات العادلة والمخلصة والتي لا تريد الاكتفاء برش حلوى الكلام على شفاه الإعلام.
وعلى سبيل المثال كما قرأنا من حاول إشغال المجتمع عن هذا التوجه المفصلي الحازم بتحويله لمادة للنفخ والمديح لا تحتاجها القيادة السعودية ككل في هذه اللحظة الحدية ولا يحتاجها قطعا قيادي في مطلع العمر للتو بدأ يتلمس طريقا مستقلا على سلم القيادة، فقد قرأنا عددا يستحق الاهتمام لرسائل شباب وقوى وطنية تريد أن تكون شريكا شفيفا وفعالا في حلم وفعل التحول الوطني. وعندي عينة من تلك الرسائل التي يقول فيها عدد من الشباب كبرجس البرجس وسارة عبدالله وسواهما «ياليت ندعى لتقديم رأي أو مشاركة عملية ولو تطوعية في الإعداد لتصورات وبرامج مشروع التحول الوطني.» .
وهذا يطرح سؤالا سبق أن طرحته على الأمير محمد بن سلمان في أعقاب اللقاء الأول لحوار برنامج التحول الوطني، عبر الجزيرة، وهو سؤال تطرق له أيضا بعض الكتاب ومنهم بشكل مباشر الكاتب محمد الرطيان في آلية التمثيل الوطني العادل في مثل هذه الفعاليات المفصلية وأطرالتمثيل وضوابطه حتى لا يقتصر التمثيل على النخب المخترعة بتعبير إيمان القويفلي.
وعلى أني أكتب هذا المقال قبل بزوغ فجر اليوم المنتظر/ الاثنين 25/4/2016م في الشارع السعودي وعبر وسائل الاتصال وخاصة موقع التحول الوطني على تويتر لإعلان الرؤية السعودية 2030م الذي بلغ عدد المسجلين فيه، من يوم تدشينه الأربعاء الماضي 20/4 إلى اللحظة عصر الأحد، 226 متابعا، فقد بقيت كلمة أخيرة أسرها بشكل شفيف وصادق أمام الملأ في أذن محمد بن سلمان وأقول فيها لنا وله أنه بقدر حاجتنا، على سفينة الوطن المشتركة المحاطة اليوم بأعتى عواصف الإنزيحات، لرؤية وأهداف واضحة لتشييد بنية اقتصاد قوية ومستدامة، وبقدر حاجتنا إلى تعدد وتنويع مصادر الدخل الوطني النزيه الحر وتطويره، فنحن بحاجة ملحة وعاجلة أيضا ومن قبل ومن بعد إلى تطوير رؤية سياسية مستنيرة. إننا اليوم بأمس الحاجة لتطوير البنى والعلاقات السياسية بين المجتمع والدولة وإلى قبول تعدد وتنوع القوى الاجتماعية والسياسية من القوى الناعمة إلى القوى النائمة. لقد عاش المجتمع السعودي عمرا طويلا من تاريخه التأسيسي في حياد سياسي أو في سجال سياسي مقنع كادت أن تكون له في بعض المراحل نتائج وخيمة لولا لطف الله، من احتلال الحرم إلى حميات الصحوة وفجيعة التفجيرات. ولهذا فإن مواجهة استحقاق التحول الوطني بتعميق اللحمة الوطنية يقتضي أن يكون هناك منهج ورؤية وأهداف وآليات تمثيل سياسي تجعل القوى الوطنية في موقع عضوية مشاركة وليس عضوية شرفية أو استشارية فقط وذلك للخروج من عنق زجاجة الأزمات ولبناء الاستقلال الوطني السياسي والاقتصادي المنشود. فالعمل على التوصل إلى وضع خارطة طريق سياسي ممنهج بأطر دستورية وقانونية واضحة وعادلة وعاملة هو أحد الشروط اللازمة التي لا تأجيل لها ولاعذر منها لوضع سياسات وطنية سليمة وشفافة بما فيها سياسات الاقتصاد. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.