د. حمزة السالم
قيام صندوق سيادي ضخم ليس هدفاً إصلاحياً في ذاته، بل محاولة لإيجاد وسيلة لتحقيق الإصلاح. فقرن النفط بنى لنا حضارة لا تقوم بنفسها بل بغيرها، مقابل ثمنٍ غالٍ. وقيام البلاد بنفسها لن يتحقق إلا باعتمادها على أبنائها. وليست السواعد هي من تبني حضارة اليوم بل العقول، فما أكثر من سواعد شعوب تعيش في فقر وجهل. والصندوق السيادي إذا نجح، فإنه سيكون ثروة لا تختلف عن ثروة النفط، اللهم انه سيكون أكثر تذبذباً وأقل استقلالية وشوكة في الظهر تضغط علينا. فالنفط في أرضنا والأوراق المالية في أرض غيرنا.
ولهذا فأنا أعتقد أنه لو تحقق الصندوق السيادي، فإني أعتقد غرضه هو سد الفجوة الزمنية لإصلاح العقل السعودي بعد أن مهدت ثروة النفط لذلك، وأصبح المجتمع السعودي يمتلك ثروة فكرية وعلمية ضخمة اللهم أنها مُهدرة بسبب عوائق الثقافة المانعة للتحليل والتفكير المستقل.
وبداية بناء العقول في أي مجتمع حضاري حديث هو الجامعات. فالجامعة هي من تخرج مدرس الابتدائي والثانوي. وهي التي تخرج الضابط الذي يتعلم منه جنوده. وهي التي تخرج المدير والوزير. فالجامعة يُفترض أن تخرج طالباً يستطيع أن يفكر ويحلل، ثم بعد ذلك فقدره الوظيفي والاجتماعي، يوجهه لتنمية هذه القدرات واستخدامها أو يوجهه لتعطيلها.
ومن الخطأ النظر للجامعات العالمية المتقدمة اليوم، ثم القياس عليها والاحتجاج بطرقهم وأساليبهم. وذلك لأن تلك الجامعات العالمية في بداياتها ما بدأت كما هي عليه اليوم، بل بدأت كقلاع للعلم والعلماء. وأسست ثقافة التفكير والتحليل، فأصبحت مناهجها وطرق تدريسها قائمة على ذلك الأصل العلمي التحليلي المنطقي، بالطبيعة دون تكلف.
لذا فأنا أعتقد أن على وزارة التعليم أن تقيم مشروعاً طموحاً عملياً لا مجاملات فيه ولا اعتبارية للمناصب. فالسعوديون المتعلمون الأذكياء كثير لكن مستقلي التفكير منهم المنطقيين الموضوعيين نوادر، فهم أندر وجوداً من الألماس في شوارع مقديشو. فلو استطاعت وزارة التعليم جمع خمسة أو عشرة منهم فأسسوا برنامجاً لدكاترة الجامعات، ولا بأس أن يستعينوا في هذا البرنامج بالخبرات الأجنبية. برنامج فيه منهج عام ومنهج تخصصي. فالمنهج العام هدفه إزالة عقبة التبعية عن عقول الأذكياء منهم لتتفجر طاقاتهم الفكرية المكبوتة بتراكمات الوصايات الدينية والسياسية والاجتماعية والأسرية. ثم يكون هناك منهج تخصصي في تخصصاتهم التي يُدرسون فيها أبناء هذا الوطن. منهج يكشف عنهم حجب الاستسلام العقلي ويداويهم من الجدل البيزنطي ويعلمهم مبدأ التواضع للتعلم والاعتراف بفضل الآخرين. منهج يزودهم بالبصيرة المنطقية التي تؤهلهم لإدراك فخ التلقين الذي وقعوا فيه بأنفسهم، أو سُحبوا إليه بسلوك الطلبة التعليمي. فيُعلم من ثبتت أهليته من الدكاترة غيره ممن يشاركه في تخصصه. فقاعات الجامعات اليوم كقاعات كتاتيب الصوفية.
ولا أزعم أننا يمكننا بذلك تحويل دكاترة الجامعة إلى مفكرين، ولا أطمع بأن يتحول المجتمع السعودي إلى مجتمع مفكر، فهذا لم يحدث قط في تاريخ البشرية. الذي أطمح إليه هو إيجاد نخبة تفكر, ليوجدوا أغلبية تستطيع فهم الفكر المقدم لهم. ففي بلادنا اليوم يغلب روجان الفكر السطحي ويغيب الفكر العميق. فالمفكرون نادرون، وإن تحدثوا فلن يفهمهم أحد.
لم تسبقنا الشعوب لكثرة أذكيائهم ومفكريهم، بل غلبتنا بقدرة عوامهم على فهم منطق أذكيائهم ومفكريهم.