(موسكو تايمز) - روسيا:
سنوياً، ينظم الكرملين «جولة» مثيرة للغاية لمجموعة مختارة من الأجانب الذين يزورون روسيا تحت لافتة «نادي فالداي الدولي للمناقشة». لقد كانت جولة في عالم آخر وهو عالم يعيش فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمفرده تماما بحسب وصف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فما الذي يمكن أن يكون قد أدركه المشاركون في أحدث رحلات «فالداي»؟ أول وأهم شيء أدركه هؤلاء هو أن بوتين ما زال يؤمن بصيغة بدائية للغاية من الواقعية السياسية. فهو يقول إن «فترات السلام في التاريخين الأوروبي والعالمي استندت دائماً إلى قاعدة ضمان وبقاء التوازن القائم في القوة». وهو يؤمن بأن هذا هو ما يحدث حاليا.
بوتين على قناعة تامة أن الولايات المتحدة هي مصدر المشكلات في العالم ولا أحد يستطيع أن يقف في وجه واشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. لهذا لا يزال ينتهز أي فرصة لكي يتحدث عن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة حظر الصواريخ الباليستية منذ 15 عاما. وقد غامر السفير الأمريكي لدى موسكو جاك ماتلوك بالتوصية باستمرار المحادثات بين واشنطن وموسكو حول الأسلحة الاستراتيجية. وفي ذلك الوقت أيضاً، كان بوتين يشكو باستمرار من أن التصرفات الأمريكية «تقلل أهمية» الردع النووي.
في مثل هذه التصريحات، يظهر بوتين تجاهلاً واضحاً للمنطق الأساسي وكأنه ينسى تماماً أن انسحاب واشنطن من اتفاقية حظر الصواريخ الباليستية لم يمنع روسيا وأمريكا من توقيع، ليس فقط اتفاقية واحدة، وإنما اتفاقيتين لخفض الأسلحة النووية الاستراتيجية، وليس فقط بمقاييس موسكو وإنما بمقاييس واشنطن.
بشكل خاص فإن رئيس فريق التفاوض الروسي في ذلك الوقت ونائب وزير الدفاع حالياً أناتولي أنتونوف وافق على اعتبار كل طائرة في أسطول القاذفات الاستراتيجية الأمريكية رأسا نووية واحدة، في حين أن كل طائرة في الواقع تحمل عدداً من الصواريخ النووية. وهذا في حد ذاته يكفي لتعزيز السيطرة الأمريكية بدرجة كبيرة، التي كانت أمريكا قد عززتها بالفعل ببرنامج الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ.
ربما لا يؤمن بوتين حقيقية بأن الولايات المتحدة ستستغل تفوقها العسكري في توجيه ضربة أولى حاسمة ضد روسيا. ويبدو أن بوتين يعتقد أن واشنطن أقامت نظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ لكي تقلل التهديد الذي تمثله الترسانة النووية الروسية بالنسبة لها، وهو يكاد يكون الشيء الوحيد الذي يتيح لروسيا الحفاظ على قدر من توازن القوة مع الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه فإن موسكو تستغل الحروب الإقليمية لتعزيز أهميتها على الصعيد الدولي. فمنذ وقت ليس بالطويل أثبت بوتين حقه في المشاركة فيما يمكن اعتباره «مؤتمر يالطا» الجديد من خلال إشعال حرب واسعة في أوكرانيا. واليوم فإنه يشعل حرباً في سوريا. وفي أكثر عباراته إثارة خلال حديثه في «نادي فالداي الدولي للمناقشة» قال بوتين «بالتأكيد فإنه على الحكومة السورية فتح قنوات اتصال فاعلة مع قوى المعارضة المستعدة بالفعل للحوار. وأنا فهمت من لقائي مع بشار الأسد أنه مستعد لمثل هذا الحوار». بهذه الطريقة فإن موسكو تلعب دوراً رئيسياً في الشرق الأوسط. كما خصص بوتين جزءاً كبيراً من خطابه أمام «نادي فالداي» لكي يندد بما اعتبره محاولة واشنطن التمييز بين المعارضين السوريين «المعتدلين» و»غير المعتدلين». ووفقاً لمنطق بوتين فإن أي شخص يحارب بشار الأسد في سوريا هو إرهابي ويصبح هدفاً مشروعاً للقصف الجوي الروسي. في هذه الحالة، فما هي الجماعات المعارضة التي يعتبرها بشار الأسد وتعتبرها روسيا جماعات «وطنية وعلى صواب» ومؤهلة لتكون شريكا في المفاوضات مع الحكومة السورية؟ بالطبع فإن المجموعات المستعدة فقط للتعاون مع الأسد هي التي تنطبق عليها هذه المواصفات. حسنا، لا أظن أنه يمكن العثور على مثل هذه الجماعات في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا.
الحقيقة أن بوتين لا يخفي نواياه، حيث يقول: «في ظل موقفها المأساوي الراهن، يمكن أن تصبح سوريا نموذجاً للشراكة باسم المصالح المشتركة وحل المشكلات التي تؤثر على الجميع وتطوير نظام فعال لإدارة المخاطر».
من الواضح أن بوتين قام بغزوته في سوريا البعيدة عن بلاده لكي يجبر الغرب على القبول بروسيا كشريك. وعندما لم يتحقق هدفه المنشود، انغمس بوتين في مستنقع من التمنيات فيقول «نحن أيضاً اقتربنا من الاتفاق على تبادل المعلومات مع نظرائنا الغربيين حول مواقع وتحركات المسلحين».
العالم الذي يعيش فيه بوتين هو أبعد ما يكون عن الواقع. وهذا هو ما يجعل الأمر مثيراً بالنسبة للأجانب الذين يحصلون على دعوات للقيام بجولة في هذا «العالم الآخر». فمن الذي يستطيع مقاومة الشعور بالدهشة، عندما يرى زعيماً يقرر بمفرده مصير بلاده ومواطنيه انطلاقاً من دروس طفولته؟ يقول بوتين: «منذ خمسين عاماً تعلمت القاعدة الأولى من شوارع لينينجراد وهي تقول إنه إذا أصبحت الحرب حتمية، فكن صاحب الضربة الأولى». من ناحية أخرى فإن بوتين يلمح إلى أن الغرب قد يهاجم روسيا بالفعل.
- الكسندر جولتس