د. محمد بن عبد الله ال زلفة
حملت الرؤية مفاهيم ومحاور عديدة أثلجت صدور كل المواطنين السعوديين وغمرتهم بالفرحة والبهجة التي غابت عن وجوههم فترة طويلة، لدرجة ساد شعور لدى الكثير من المواطنين أن الفرحة والشعور بالسرور أصبح بينها وبين المجتمع السعودي حواجز بنيت بخرسانات يصعب تفكيكها أو حتى التفكير في المحاولة, والمؤلم أن الكثير من مكونات المجتمع ما كان يرى موجباً لوضع أبناء هذا الوطن تحت هذا الشعور. وأصعب شيء أن يصاب الأفراد بشعور اليأس والقنوط وما قد يقود الفرد إليه من تصرفات غير مرضية ولا مقبولة لن تقتصر عواقبها على الفرد نفسه بل على كل من حوله، فما بالك إذا وصلت شرائح غير قليله من المجتمع وبشكل جماعي إلى هذا الشعور بالضيق والضنك وعدم الشعور بالرضاء.
تقابل الشاب فتسأله مالك مهموماً، وكذلك الشابة ومعهما الأب والأم، فلكل منهم شكواه، يجيب الشباب بقولهم: قل أي شيء يدخل إلى قلوبنا السعادة ونحن لا نعرف لها طريقاً، فمدارسنا كئيبة ليس بها فسحة من أمل بالشعور بالسعادة أو إشغال أنفسنا بما يدخل السعادة إلى نفوسنا، فمسرح المدرسة مغلق، وغرف إشباع الهوايات من رسم أو فن أو نشاطات فكرية غير مؤدلجة ليست متوفرة.
والذين غادروا مدارس التعليم العام بكل ما فيها من كآبة وانتقلوا إلى الجامعات كانوا يتطلعون إلى أن الجامعات هي إطلالتهم على عالم مختلف يعج بالنشاطات الفكرية والثقافية والفنية واكتشاف المواهب وصقلها من خلال أساتذة كبار في المجالات التي تهيئهم للحياة التي كان يحلمون بها ما بعد الجامعية. فإذا بالحلم يصبح وهماً، والتطلع ينقلب إلى انكسار. فالجامعة الحلم لا تختلف كثيراً عن مدرسة ثانوية، فنشاطاتها محدودة إن لم تكن معدومة، والقيود على المنافذ الفكرية والثقافية والفنية محكمة فليس للمرء إلا طريق واحد وهو الشعور بالانكسار، فالجامعات معظمها تغلق أبوابها ما بين صلاتي الظهر والعصر، فلا نوادي للطلاب من أجل الترفيه في الجامعات بعد ذلك، وتجد تلك المباني الضخمة لجامعاتنا لا وجود للحياة فيها من بعد صلاة العصر، بعكس كل جامعات العالم التي تبقى نابضة بالحياة وما تقدمه لطلابها من نشاطات فكرية وثقافية وفنية، إذ من خلال هذه المناشط تتفجر الطاقات الإبداعية في دواخل الطلاب ولا يدخل اليأس والقنوط والكآبة إلى نفوسهم.
أما طلاب جامعاتنا فيعيشون شبه مشردين في الأحياء القديمة والمزدحمة من المدينة بحثاً عن السكن الأرخص وخاصة الطلاب القادمين من مناطق خارج منطقة الجامعة.
والمساكن التي تؤمنها الجامعات لطلابها توضع على كل طالب من الشروط الكثيرة التي لا علاقة بها باحترام قوانين الحفاظ على نظافة مسكنه واحترام الشعور العام للآخرين والحفاظ على ممتلكات الجامعة، فالمساكن خالية من مراكز الترفيه عدا غرفة لمشاهدة التلفزيون كثيراً ما يعتدى على تعطيله من قبل قلة من الطلاب الساكنين بحجة فتوى تلقاها أحدهم من بائعي الفتاوى بأن مشاهدة التلفزيون حرام.
نتيجة لهذه القيود يهرب الطالب الجامعي ليس إلى حرم الجامعة بحثاً عن نواد وقاعات للنشاطات المختلفة والمطاعم المتعددة في داخل حرمه الجامعي، إذ إن كل هذا غير موجود، فيذهبون إلى المقاهي الرخيصة في الأحياء القديمة والمتهالكة من المدن ويعاني الأمرين في الوصول إليها خاصة إذا لم يكن لديه سيارة ولا توجد مواصلات منظمة توفر عليه ما يصرفه على النقل الذي يذهب معظم مكافآته من الجامعة للمواصلات وهي نوع واحد لا غير التاكسي، تصور معاناة هذا الطالب الجامعي الذي يجب أن نوفر له كل شيء في محيطه الجامعي.
يجب ألا نجعله يستقبل حياته الجامعية مع هذه المعاناة، أي تحصيل علمي في مثل هذه الأجواء يستطيع الحصول عليه؟ أي نفسية سيخرج بها لحياته العملية؟ أي نوع من أنواع الأداء يقدر على القيام به؟
إن معاناة أبنائنا وبناتنا تبدأ بهذه السلسلة المرة مع الحياة، ويجب من خلال الرؤية الخاصة بالتعليم والثقافة والترفيه أن تضع الإستراتيجية الواضحة التي لا لبس فيها لمعالجة مثل هذه الأمراض النفسية والاجتماعية والثقافية التي يستقبل بها شبابنا حياتهم لكي لا تستوطن في نفوس زهرات شبابنا أمراض اليأس والقنوط والكآبة.
وهذان المحوران الثقافه والترفيه في الرؤية هما ما يجب أن نبدأ بهما.
أولاً: لأنهما غير مكلفين مادياً، فميزانيات جامعاتنا تعد من أعلى ميزانيات الجامعات في محيطنا الإقليمي.
ثانياً: التنفيذ العملي لا يحتاج إلى الكثير من الوقت أو الجهد، كل ما في الأمر دعوة مديري الجامعات إلى اللقاء بمهندسي الرؤية ومن ثم الخروج برؤية جديدة لكيفية إدارة الجامعات، إذ من الجامعات ينبثق النور.
وما ينطبق على الجامعات وإن كان بدرجات أقل ينطبق على النوادي الأدبية والجمعيات الثقافية والفنون والمراكز الثقافية والحضارية والتي بكل أسف تتمركز في حواضر المدن أو عواصم الأقاليم بينما بقيت المناطق الطرفية داخل المناطق نفسها مهمشة تماماً، هناك محافظات يبلغ عدد سكانها أكثر من مائة ألف نسمة ليس بها مكتبة عامة ولا مركز حضاري ولا يعرف الكثير من سكانها من الثقافة إلا اسمها، بينما سكان هذه المحافظات أو المراكز هم الأكثر هجرة إلى المدن الكبرى، فنتيجة لثقافاتهم المحدودة لافتقادهم إلى مراكز تبث فيهم الوعي الثقافي والحضاري منذ بدايتهم الأولى يذهبون إلى المدن فيعيشون على هوامشها ويصبحون عرضة لمن يريد أدلجتهم لأهداف وأغراض خاصة وما أكثرهم.
وما حصل من نكبات في العديد من العواصم العربية التي تشهد أعتى الاضطرابات والفوضى والاحتراب حطبها في الأساس هم الذين قدموا من الأرياف والقرى والهجر والنجوع فسكنوا على هوامش المدن وشكلوا ما يعرف بالعشوائيات أو ما أصبح مصطلحاً لدى البعض تريف المدن أو بدونتها، وما حدث في جمهورية مصر خير دليل، والدليل الأكثر وضوحاً ما يحصل في بغداد حينما هاجر أبناء ريف جنوب العراق وشكلوا أكبر تجمع سكاني في قلب العاصمة العراقية وتقلب اسم ذلك المكان لتجمعهم من مدينة الثورة في عهد عبد الكريم قاسم ثم مدينة صدام في عهد صدام حسين ثم أخيراً مدينة الصدر والله أعلم من ستسمى به بعد ذلك أرجو ألا تكون مدينة قاسم سليماني.