د. محمد بن عبد الله ال زلفة
قبل مائة عام لم تكن المملكة العربية السعودية قد اكتملت وحدتها. فلقد كان لاكتمال هذه الوحدة قصة طويلة هي من أعظم الإنجازات وأندرها التي تم تحقيقها في تاريخ الجزيرة العربية منذ نهاية عهد الخلافة الراشدة.
لكي تكتمل هذه الوحدة العظيمة أخذت من جهود الموحدين المؤسسين لهذه الوحدة 32 عاماً قضاها أولئك الأبطال وهم يعملون ليل نهار وعلى مدار السنة ولمدة اثنتين وثلاثين سنة على صهوات خيولهم وعلى ظهور نوقهم وكثير منهم يمشون على أرجل حافية غير آبهين بلظى رمال الصحراء الحارقة أو خشونة حجارة الجبال الجافة يدفعهم الطموح والأمل والصبر والإيمان في تحقيق حلم لم ينعم به أيٌ من أسلافهم على مدى حوالي أربعة عشر قرناً الحلم هو توحيد هذه الجزيرة العربية على أيدي أبنائها بعد أن تم تجاهلها من قبل حكومات متعاقبة حكمت العالم الإسلامي على مدى تلك القرون.
قبل ست وثمانين سنة أي في عام 1351هـ تم إعلان اكتمال وحدة بلادنا تحت مسمى المملكة العربية السعودية حيث حل هذا الاسم التاريخي العظيم الذي اجتمع عقلاء ونبلاء وأصحاب الحل والعقد في هذه البلاد على تبني هذا الاسم الذي يجسِّد الوحدة الوطنية بعد اكتمال أسس ومقومات وأركان هذه الوحدة ليحل محل آخر اسم تسمت به بلادنا وهو سلطنة نجد ومملكة الحجاز وملحقاتها وما كان لهذا الاسم المتعدد من دلالات لا يوحي على اكتمال الوحدة المنشودة.
وأعذرني أخي القارئ الكريم أن آخذك في رحلة سريعة نتتبع فيها مراحل قيام هذه الوحدة العظيمة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه وثق أخي القارئ أختي القارئة بأنني لن أدخل في كامل التفاصيل ولن أزعجك بلغة أكاديمية معقدة وإنما الهدف من هذه السلسلة من المقالات هو الوقوف والتذكير بمعرفة تحقيق هذه المعجزة معجزة توحيد بلادنا التي تواجه اليوم تحديات كبيرة ما كانت ستواجهها لو لم تكن كبيرة ووطأتها شديدة على من يحاول النيْل منها أو التشكيك في قدرتها على مجابهة التحديات لأن قيام هذه الوحدة الرائدة في وطننا العربي هي ومنذ الوهلة الأولى أو الخطوة الأولى في سبيل هذه الوحدة كانت أكبر مشروع تحدٍ أمام صنّاع هذه الوحدة الذين أثبتوا للعالم أنهم بالعزم والحزم والإصرار والتضحية قادرون على قهر كل التحديات وتحقيق الهدف واليوم في أعناق أبناء وأحفاد جيل التأسيس أمانة كبرى ومسئولية عظيمة في الحفاظ على وحدة أقامها أجدادهم بدمائهم وعرقهم وبقلة ما كانوا يملكون وما يقوم به الأبطال من الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد من البطولات في أكثر من ميدان وفي أكثر من جبهة دفاعاً عن هذه الوحدة لدليل قاطع على أن الأمانة حملها من هو كفؤ لها. فهل يهنأ المؤسسون بأن وحدة أقاموها هي في أيدٍ أمينة مهما كانت ضخامة التحديات.
كانت الخطوة الأولى في بناء هذه الوحدة صبيحة يوم الخامس من شوال 1319هـ يوم استعاد المؤسس الرياض رياض الفتح وفاتحة لكل الفتوحات.
الرياض قلب نجد ولكل قلب شرايين يحيا ويزداد قوة بقوتها ما كان للقب أن يكون قوياً لو لم تتوحد كل نجد من حوله بحواضرها وبواديها، لم تمض إلا سنوات قليلة ويكتمل توحيد نجد بما فيها القصيم.
وهنا تبدأ التحديات عندما أصاب قوى محلية وأخرى إقليمية جراء ما يحدث في نجد من تطورات، ونجد إذا توحدت وهي لم تتوحد إلا مرتين في عهد الدولة السعودية الأولى والثانية - لا سيما والموحد يتكئ على تاريخ يمتد لقرون ولم يكن طارئياً أو غريباً ولو كان كذلك لما التف الناس من حوله. وكان قائداً شجاعاً مقداماً فارساً وكريماً ولو لم يكن كذلك لما دانت له شجعان وفرسان نجد، لم يعد إلى نجد بفرمان من سلطان أو بقوة نفوذ أحد ولو كان الأمر كذلك لكان ذهب مع من ذهب، ولما تمكّن من إرساء قواعد حكم أضحى متجذراً قوياً يزداد قوة ومتانة كل ما تقادم به الزمن لأنه بني على أسس ثابتة وعقيدة نقية لم تشبها شائبة أو تلوثها خرافة. لم تكن طموحات المؤسس لتقتصر على توحيد نجد وإقامة دولة على منطقة معزولة، فالدول المنعزلة سرعان ما تسقط وتحكم عليها انعزاليتها بالفناء وإنما الأنظار ترنو إلى الفضاءات المحيطة شمالاً حيث حائل والجوف وشرقاً حيث منطقة الأحساء بسواحلها الطويلة والنافذة البحرية على العالم وغرباً حيث الحجاز أرض المقدسات وإلى الجنوب حيث العمق الإستراتيجي.
كان المؤسس يُؤمن أنه لا بد من الوصول إلى كل هذه الفضاءات ضمن إعادة بناء دولة الجزيرة العربية الواسعة مستلهماً تاريخ دولة أجداده الأولى التي وصل نفوذها إلى كل هذه الأرجاء وتم توحيدها لأول مرة في تاريخها تحت مظلة حكومة مركزية عاصمتها الدرعية.
ولكنه كان يدرك أن تلك الجهات كانت تحت الحكم العثماني المباشر أو النفوذ الاسمي للدولة العثمانية، وكان يدرك أنه ليس من الحنكة السياسية أن يدخل في صراع مع العثمانيين ولكنه في الوقت نفسه يدرك أن الحكم العثماني من الهشاشة بمكان لا يستطيع أن يدخل في مواجهة مع هذه القوة التي انفجرت بها أرض نجد وهذا الانفجار السياسي الذي يشبه البركان لن يبقى محصوراً في نجد بل سيمتد إن عاجلاً أو آجلاً إلى كل ما حوله. ولم يكن يلتفت إلى من كان يقول ماذا تريد بعد أن مكّنك الله من توحيد نجد وحكمها. لم يكن يوماً في تاريخه الطويل يسمح للمثبطين أو المترددين أو مثل من نسمعهم اليوم يقولون: «هل هناك ما يستحق المخاطرة»؟
كان المؤسس يريد أن يختصر المسافات ويحقق ما يصبو إليه دونما الدخول في مواجهات مع الدولة العثمانية دولة الخلافة المتهالكة ولكن ما زالت لها الصفة الشرعية.
وما أن تناقلت الأخبار تلك الانتصارات التي يحققها المؤسس تُوجت بتوحيد وسط نجد حتى ألهبت الحماس في نفوس العديد من القبائل التي رأت أن موعدها مع الوحدة قد آن أوانه وظهر القائد المنتظر الذي أعاد إلى نجد وحدتها وأمنها واستقرارها وأن بقاء تبعثرها أو تبعياتها لكيانات سياسية هشة هنا أو هناك تستظل بظلال دولة لا تقوى على حماية نفسها فكيف تحمي من يبحث عن الحماية. انضوت معظم قبائل وسط الجزيرة إلى راية من رأوا فيه أنه المخلص لهم مما كانوا فيه من ضياع منذ سقوط الدولة السعودية الثانية. كما رأت فيه القيادات الحضرية في نجد أنه من أعاد إلى نجد أماناً كان مفقوداً وحروب دائمة الاشتعال بين مدن نجد بعضها ضد بعض أو ما كان بينها وبين البادية وبوصول نجد إلى هذه الحالة من التوحد فما عساها فاعلة وقد أصبحت قوة؟ تتابعها أعين الخصوم والحساد والمتربصين موظفين رجالاتهم لمتابعة أخبار ما يحدث في نجد وعادوا إلى دور محفوظاتهم وكتب التاريخ لقراءة ما أحدثته قيام الدولة السعودية الأولى من تغيير في تاريخ الجزيرة العربية ووصلوا إلى قناعة بأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بقراءة ومعطيات مختلفة ولا بد من المواجهة ولكن كيف؟ في الحلقة القادمة نبحث عن الجواب.