د. محمد بن عبد الله ال زلفة
أشرت في الحلقة الماضية إلى أنه ما حدث في نجد من تطورات سياسية إنما هو حدث يشبه الزلزال على من كان يتابع ويراقب تلك التطورات، خاصة تلك الأنظمة أو الكيانات السياسية التي نشأت نتيجة للفراغ السياسي الذي أحدثه سقوط الدولة السعودية الثانية وتلك الكيانات ما كان لها أن تقوم وتملأ الفراغ لولا دعم الدولة العثمانية لها.
وكانت هذه الكيانات السياسية ممثلة في إمارة آل رشيد في حائل وشرافة الحجاز في مكة وإمارة قطر على الخليج وكذلك إمارة الكويت وإن كانت قد دخلت في معاهدة مع بريطانيا بفترة قصيرة قبل استعادة الملك عبدالعزيز حكمه على نجد، ويجب الإشارة إلى أن كلاً من هذه القوى قد أسهمت في مساندة الدولة العثمانية على إسقاط الدولة السعودية الثانية وكل هذه الكيانات ظلت مستظلة بحكم العثمانيين الذين هم الأساس في وجودهم ككيانات سياسية، ولكن أيا منهم لم يتمكن من تحقيق الأمن والاستقرار لكل المنطقة.
ولكن من سوء حظهم أن الدولة العثمانية كانت في أقل درجات قوتها وظروفها لا تمكنها من الحفاظ على وجودها فكيف تحافظ على وجود من لا قدرة له على البقاء من أتباعها.
وكما ذكرت سابقاً في الحلقة الماضية لم يكن الملك عبدالعزيز يريد أن يدخل في مواجهات مع الدولة العثمانية أو حتى إبداء ولو تلميحاً بأنه يضمر موقفاً عدائياً لها لكونها من أسقط الدولة السعودية بل ظل يعتبرها دولة الخلافة وليس من الحنكة السياسية أن يبادرها بأي موقف عدائي، وقد عبّر عن ذلك في العديد من الرسائل إلى حكومة الخلافة في اسطنبول ومن خلال ممثليها في بغداد ودمشق والمدينة المنورة.
ولكن السائرين في الفلك العثماني من الكيانات التي أشرت إليها هم من حاول أن يستعدي الدولة على عبدالعزيز دون أن يدركوا أن عبدالعزيز كان أشد منهم حنكة وحكمة ودهاء، حينما حاول تحييد الدولة العثمانية، حينما سيجد نفسه لا محالة في مواجهة مع تلك الكيانات التي ناصبته العداء بشكل مباشر مثل أمراء حائل وأشراف مكة أو بشكل فيه مواربة مثل موقف أمير الكويت الشيخ مبارك الذي بدا قلقاً من سرعة الإنجازات التي يحققها عبدالعزيز وانجذاب القبائل إليه والدخول في طاعته، ومثل موقف الشيخ مبارك كان موقف الشيخ جاسم أمير قطر الذي فتح بلاده لكل المعارضين للملك عبدالعزيز وازداد قلقه وتخوّفه حينما أصبح يهدد باستعادة الأحساء التي ما زالت تحت حكم العثمانيين، وازداد قلقه أكثر حينما استولى على الأحساء عام 1913م.
كان الملك عبدالعزيز يكن احتراماً بالغاً لكل من الشيخين مبارك في الكويت وجاسم في قطر، وحينما واجها تحديات من قبائل معارضة لهما وكاد أن يسقط حكماهما استنجدا بعبدالعزيز وهو -حينذاك- في مواجهة مع تحرك شريف مكة ضده على حدود نجد الغربية، لم يتوانَ عبدالعزيز في التحرك على رأس طلائع من مقاتليه لنجدة الشيخين.
وهو في هذه الظروف الصعبة وهنالك من يعتقد أن جزءا من طلب النجدة من عبدالعزيز كان الهدف تشتيت مجهوده الحربي، ربما أملاً في إضعافه، وقد وجدت رسائل من شريف مكة الذي غزا نجد ووصل إلى عاليتها بالقرب من شقراء بأمل القضاء على عبدالعزيز في عقر داره وقيامه بأسر الأمير سعد بن عبدالرحمن قائد الجبهة الغربية بخديعة قام بها أفراد من محاربي إحدى القبائل.
كان الشريف في هذه الرسائل يطلب من أمير الكويت مد جيشه بالمؤن وكانت غزية الشريف فاشلة بكل المعايير لولا دخوله في محادثات مع الملك عبدالعزيز الذي كان همّه الأول استعادة أخيه الأثير إلى قلبه من الأسر، مما حفظ للشريف ماء وجهه أمام الدولة العثمانية التي كانت قد نصحته بالمجازفة والمغامرة بغزو نجد بحصوله على ورقة من الملك عبدالعزيز بتجديد اعترافه بالدولة العثمانية، وهو من الأمور المفروغ منها بالنسبة لعبدالعزيز، ومنح أهل القصيم حق دفع زكواتهم إلى ممثلي الدولة العثمانية في الحجاز، بالإضافة إلى عدم التدخل في شئون قبيلة عتيبة فلا أهل القصيم دفعوا الزكاة إلى الحجاز ولا قبيلة عتيبة التي دخلت بكامل رضاها في طاعة الملك عبدالعزيز قبلت بالانفصال عنه، وكان محاربو هذه القبيلة الكبيرة والمهمة ممن ساند الملك عبدالعزيز في ضم القصيم وفي ضم الحجاز بعد ذلك، وكانوا في طلائع جيوش الملك عبدالعزيز في كل حروب التوحيد منذ بدايتها إلى نهايتها.
كان الملك عبدالعزيز في مواجهة التحديات يواجهها بالحزم والعزم والحكمة والحنكة، حينما يجد أن الحكمة والحنكة تحقق له الهدف بأقل الخسائر، قليلاً ما كان في حروبه طالباً للحرب أو ذاهباً إليه دون مسببات، ولكنه في الوقت نفسه كان مخططاً استراتيجياً متخذاً لكل عمل حربي خطته التي تضمن له التفوق، يأخذ في الاعتبار الأبعاد السياسية لكل حرب يخوضها لأنه زعيم يصنع دولة وليس محارباً مغامراً ليس له هدف سوى استعراض لقوته الفردية لإبهار المغامرين من حوله دون أن يصل إلى تحقيق هدف سوى أن يقال إنه شجاع الملك عبدالعزيز معروف بشجاعته وإقدامه وكان على رأس جيشه في أهم المعارك الحربية المصيرية في توحيد المملكة العربية السعودية.
من التحديات التي واجهت الملك عبدالعزيز إبان إعادة وبناء الوحدة الوطنية وما أكثرها من تحديات قلقه من الوجود البريطاني في منطقة الخليج ذلك الوجود الذي كان له أثر في سقوط الدولة السعودية الأولى، وكذلك الثانية حينما تكالبت القوى المحلية والإقليمية والدولية ممثلة في حكومة بريطانيا وتوحدها من أجل إسقاط الدولة العربية الوحيدة التي عرفتها الجزيرة العربية منذ فترة الخلافة الراشدة وكان قيام هذه الدولة العربية يشعر تلك القوى مجتمعة بخطورة التأثير على وجودها ومصالحها في المنطقة ورغم العداء التاريخي بين الدولة العثمانية والدولة القاجاربة في إيران أو بلاد فارس فإن الأخيرة أول من بارك وهنأ العثمانيين على سقوط الدولة السعودية.
حاول الملك عبدالعزيز بما أوتي من حكمة وحنكة ألا يدخل مع أي من هذه القوى الإقليمية أو الدولية في مواجهات بل عمل على محاولات مد الجسور مع بريطانيا خاصة بالطرق السياسية والدبلوماسية لكون وجودها في الخليج أمراً واقعاً، ولكون نفوذها يحيط بالجزيرة العربية من كل الجهات جنوبها في اليمن الجنوبي وغربها في البحر الأحمر ومركز نفوذها في كل من مصر والسودان وكان يعمل لكل شيء حسابه ورؤيته للأمور بعيدة النظر، وهكذا دائماً يفكر أصحاب الرؤيا السياسية من مؤسسي الدول، وعبدالعزيز واحد من أبرز قادة العالم في القرن العشرين، يعمل على تأسيس دولة.
لم تفلح جهود الملك عبدالعزيز في إقناع حكومة بريطانيا بإقامة أي نوع من أنواع العلاقة معه، متعذرة بأن علاقتها مع الحكومة الشرعية صاحبة السلطة على سواحل الخليج التي لا تخضع للحكم البريطاني وهي الدولة العثمانية، إضافة إلى أنه كان للحكومة البريطانية رأسان واحدة في لندن الحكومة المركزية ممثلة في وزارة الخارجية والرأس الآخر في الهند وهو رأس لا يقل أهمية عن الرأس الأكبر في لندن، خاصة فيما يتعلق بإدارة شؤون البلاد التابعة لها في جنوب الجزيرة العربية وشرقها وكذلك شرق أفريقيا. كانت حكومة الهند البريطانية تميل إلى فتح حوار مع الملك عبدالعزيز لأنها ترى في ظهوره في نجد وتطلعه إلى الجهات الشرقية من الجزيرة العربية ما قد يجعله جاراً لها وجاراً غير تقليدي ترى من المصلحة التعامل معه ولكن حكومة لندن كانت ترى غير ذلك، وهي من وقع مع الدولة العثمانية اتفاقية عام 1913م التي تعترف لها بموجبه تلك الاتفاقية بحقها السيادي على سواحل الأحساء والقطيف وما جاورها.
كيف تعامل الملك عبدالعزيز مع هذا التحدي في أولى علاقاته الدولية مع قوتين كبيرتين هما الدولة العثمانية صاحبه السيادة وبريطانيا صاحبة المصالح الاستعمارية في المنطقة هذا ما سيكون مدار حديثنا في الحلقة المقبلة.