د. محمد بن عبد الله ال زلفة
إن هذه الدعوة الواضحة والصريحة من سمو ولي ولي العهد وزير الدفاع إلى تعريف شباب هذا الوطن بتاريخ بلادهم ينبع قول سموه من موقع مسئوليته كوزير للدفاع يدرك أهمية عمق فهم أبناء هذا الوطن بتاريخ وطنهم الذي يضحي من يحمونه في كل موقع هم فيه بدمائهم دفاعاً عن وطن عظيم أسسه وأعلى بنيانه أجدادهم المؤسسون لهذا الوطن الذي اكتملت وحدته بعد أن كان مجزءاً من مكونات جغرافية متباعدة يتحكم فيها الجهل والمرض والفقر، إضافة إلى ذلك ما كان يقوم به سكان هذه المكونات الجغرافية المتناثرة من حروب طاحنة فيما بينهم؛ إما على بئر ماء في وسط الصحراء، أو على مرعى لا يفي بحاجة القليل من الأغنام والجمال التي يملكها هؤلاء المتحاربون.
منَّ الله على هذه الأرض بقائد عظيم وحّد شتات هؤلاء القوم وآخى فيما بينهم ووحد قوتهم نحو هدف سامٍ، وهو توحيد وطنهم الذي ظل على مدى قرون طويلة أرضاً مهملة لا ينظر إليها ولا إلى أهلها بأية أهمية من قبل الحكومات المركزية المتعاقبة التي كانت تتحكم في عالمنا العربي باسم الإسلام، وتركوا أبناء أرض منبع الإسلام ومن حمل الإسلام إلى كل أصقاع الأرض في أحوال مزرية وجهل مطبق وحشروهم داخل جزيرتهم العربية ليزدادوا جهالة وانغلاقاً وفقراً، ووضعوا عليهم أشد القيود كلما حاولوا الاقتراب من أماكن التحضر في العراق أو بلاد الشام أو مصر وصاروا يطلقون عليهم أشنع الصفات والنعوت، ومما كانوا يطلقون عليهم اسم «عرب» كنوع من أنواع المسبة، وإنه لمن العجائب والغرائب أن تلحق المهانة بالإنسان العربي ابن الجزيرة العربية الذي نزل القرآن بلسانه «لسان عربي مبين» إلى هذا القدر من النظرة الدونية.
أحفاد أولئك العظماء الذين حملوا أعظم رسالة نزلت من السماء على نبي عربي لتكون نوراً ورحمة للناس كافة وتخليصاً للبشرية من ظلم تلك الحكومات والإمبراطوريات التي كانت تسوم شعوبها سوء العذاب.
ومن المؤسف أن تعاقب على حكومات عالمنا العربي حتى في العصر الحديث والمعاصر من ظل يحمل نفس الرؤية لأبناء العروبة الحقيقيين أبناء الجزيرة العربية الذين لا يمكن لهم إلا أن يكونوا عرباً لأنهم العرب حقاً، ولا يمكن إلا أن يكونوا مسلمين وعلى الدين الصحيح الذي نزل على نبيهم العربي.
ما كان أحد من المؤرخين ولا من كبار الساسة ولا من المتنبئين يتوقع أن يمنَّ الله على جزيرة العرب بقائد منهم يملك المقدرة والاقتدار على توحيد صف أبناء الجزيرة العربية ليقيم بهم أكبر وحدة عرفتها الجزيرة العربية منذ عهد الخلافة الراشدة، وهم لا يملكون من الإمكانات إلا قوة سواعدهم وصلابة عزائمهم وإيمانهم وقوة إيمان قائدهم.
تمكنوا من صناعة المعجزة وهي وحدتهم الوطنية في وقت كان العالم العربي يُقسم ويُوزع بين القوى العالمية، كما توزع التركات، فأصبح هذا الوطن العربي الموحد المملكة العربية السعودية ملاذاً وملجأ لكل عربي حر شريف وهم أولئك الذين خابت آمالهم، ومنهم من خُدع وصدق القوى الكبرى بأنهم سيقيمون لهم أوطاناً وبأنهم سيوحدون الأمة العربية في دولة عربية واحدة، لم تكن تلك الا وعوداً وأوهاماً صدقوها.
ما كان القائد الموحد الملك عبد العزيز المؤسس لهذه الدولة العظيمة ليصدق شيئا مما كان يوعد به الغرب، ذهب الواهمون والحالمون يحاربون إلى جانب القوى الكبرى وهم يعرفون أو يجهلون أن تلك القوى إنما توظفهم لمصلحتها وهذا ما كشفت عنه الأحداث بعد أن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها.
أما البطل المؤمن الموحد لهذه البلاد ما كان لأحد أن يخدعه فلقد ترك القوم يتحاربون ويحاربون، أما هو فقد مضى قدماً في تحقيق مشروعه توحيد هذه البلاد، فما أن حطت الحرب أوزارها إلا وقد أنجز تحقيق حلمه وحلم أبناء وطنه بتوحيد هذه الأرض التي يعتبر كل مواطن سعودي بأنه يعيش على أرض وحدها الآباء والأجداد بدمائهم وعرقهم، ولم يكن توحيدها منة من أحد أو الاعتماد على أحد، بل هي نتيجة جهود وتضحيات وطنية خالصة.
تفاصيل هذه الجهود والتضحيات هي ما ينقص شباب هذا الوطن معرفته على كامل حقيقته، وهذا ما جعل الأمير محمد بن سلمان وزير الدفاع يدعو إلى أهمية تعريف شباب هذا الوطن بتاريخ وطنهم؛ لأن معرفة التاريخ الوطني من أهم مرتكزات الانتماء للأوطان، وشعب غير مهتم بمعرفة تاريخ وطنه معتزاً بأمجاده مفتخراً بمنجزاته محباً لكل ذرة من ترابه إنما هو شعب لا يستاهل أن يكون له وطن، ولأن الأوطان تعلو مكانتها وتسمو سمعتها بعمق محبة وصدق انتماء أبنائها لها.
تألمت بأن دولة الإمارات العربية المتحدة أدرجت ضمن مناهجها التعليمية عاصفة الحزم. عاصفة سلمان بن عبد العزيز لنجدة اليمن ولحماية منطقتنا من التهديد الإيراني أما واضعوا مناهجنا فكأنهم لم يسمعوا بعاصفة الحزم، وكأن ما يقوم به أبطال جيشنا أمر لا يعنيهم.
نعم، أقولها ومن واقع مسئوليتي كمتخصص في تاريخ هذا الوطن وأستاذ لتاريخه في جامعة الملك سعود لأكثر من خمس عشرة سنة، أننا لم نقم بتدريس تاريخ وطننا بالشكل الذي يتناسب مع أهميته ومكانته وعلو قدره، وتحاط مادة تدريس تاريخ المملكة بالكثير من القيود وبالقليل من المادة الوثائقية المتعلقة بتاريخ عظيم لوطن عظيم.
ومن المؤسف أن مادة تاريخ المملكة لا يقدم إلا لطلاب قسم التاريخ بينما يجب أن تكون مادة إجبارية على كل طلاب جامعات المملكة أسوة بما تقوم به الجامعات الأمريكية وأنا أحد طلابها؛ فمادة التاريخ الأمريكي مادة إلزامية على كل طلاب الجامعة مع اختلاف التخصصات والأقسام. إضافة إلى أن السينما تحكي (تاريخ) والمسرح يحكي (تاريخ) والفنون بكامل أفرعها تحكي (تاريخ)، وما ينطبق على أمريكا تجده في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول المتقدمة وحتى الأمم الأقل تقدماً والأقل تاريخاً تولي تاريخها الوطني اهتماماً كبيراً.
لا أستطيع أن أقول كل شيء عن تقصيرنا في كتابة تاريخنا الوطني؛ فالحديث يطول، وأرى أننا بحاجة ماسة إلى معرفة تاريخنا الوطني وتقديمه في صور وأشكال متنوعه مختلفة لأبنائنا وبناتنا، ملتزماً بالموضوعية والأمانة متجدداً في طريقة تقديمه.
وربما بنداء الأمير محمد بن سلمان تفتح نوافذ كثيرة للإطلالة على معرفة تاريخنا الوطني وعدم الاكتفاء بنافذة واحدة هي بطبيعتها ضيقة جداً على تاريخ زاهر وزاخر.
وأنهي كلامي في هذه العجالة بمقطع مما سبق أن قلته في إحدى الندوات المتعلقة بتاريخنا الوطني قبل أكثر من ثمان سنوات قلت.
«استغرقت حروب توحيد المملكة من الجهد والوقت والتضحيات ما ينوف على الثلث قرن وشملت كل مكان من جغرافية المملكة. ولن أبالغ إذا قلت ليس هناك كيلو مربع واحد من مساحة المملكة الواسعة لم تشهد حركة لمعركة. أو مكاناً لتجهيز سرايا، أو مكاناً لانطلاق قوة. ولن أبالغ إذا قلت إنه ليست هناك حفنة من تراب هذا الوطن لم ترتوِ بدماء شهيد ضحى بدمائه من أجل قيام الوحدة المباركة. أما الذي لا يخامرني فيه أدنى شك فهو أنه ليست هناك مدينة أو بلدة، أو قرية أو هجرة، أو عائلة أو قبيلة إلا شاركت في بناء هذه الوحدة.
ومن أجل هذا، فإن الواجب يحتم علينا أن نظل أوفياء مخلصين لتلك الدماء، وتلك التضحيات في الوقوف صفاً واحداً في وجه كل من يعرض هذه الوحدة التي صنعناها جميعاً بأي نوع من أنواع التهديد.
وواجبنا أيها الزملاء والزميلات من أساتذة وطلاب التاريخ المتخصصين في تاريخ المملكة أن نتحلى في بحوثنا بالأمانة والموضوعية في رسم الصورة الحقيقية لمراحل حروب التوحيد، والظروف الصعبة التي صاحبتها، والرجال والنساء الأوفياء الذين صنعوا هذه الوحدة؛ كل منا في مجال اهتمامه البحثي سياسياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعيا أو عسكرياً أو إعلامياً أو غير ذلك من مختلف التخصصات التي تبرز الجوانب المتعددة من مسيرة بناء دولتنا المعاصرة، فعلينا جميعاً تقع مسؤولية كتابة تاريخ المرحلة بدقة وأمانة، وتقريبها إلى أذهان أبناء هذا الجيل الذين لا يعرفون عنها إلا قليلاً؛ فإنهم لو عرفوا الظروف الصعبة التي عاشها آباؤهم وأجدادهم المؤسسون لارتفع في نفوسهم الحس الوطني، وأحبوا وطنهم بكل إخلاص، بيد أن المعضلة تكمن في تضييق منافذ إطلالة أبناء الجيل المعاصر على تاريخ وطنهم إذا انحسرت في كتاب مدرسي واحد يكرر نفس المعلومة، ونفس الرأي، ونفس الرؤية من بداية دراسته تاريخ وطنه في التعليم العام إلى التعليم الجامعي؛ فالمسرح مغلق أمام التاريخ، والفيلم التوثيقي معدوم، والسينما التاريخية محرمة، والرواية التاريخية عليها قيود، والندوات التاريخية قليلة، وإن وجدت قدمت بطريقة تسرب الملل إلى النفوس.
أما ما هو أدهى وأمر من ذلك وهي المعضلة الكبرى، فتكمن في اندراس وثائقنا الوطنية وضياعها وإهمالها، وما وجد واكتشف منها - وهو قليل- فعليه ألف قيد بحجج غير موضوعية ولا منطقية في زمان الانفجار المعرفي، إضافة إلى اختفاء معظم المعالم التاريخية من القصور والقلاع ومسارح المعارك والأحداث.
إن التضييق على منافذ معرفتنا بتاريخنا الوطني، وعدم الحفاظ على مصادره الوطنية، وعدم تمكين الباحثين من الاطلاع عليها وتوظيفها في كتاباتهم التاريخية يفتح أبواباً للمشككين والمزورين والمدّعين والدساسين والمغرضين ضد هذا الوطن، وعظمة أهم مقوم من مقومات إنجازاته وهي وحدته الوطنية التي تعد أهم منجز في تاريخ العرب الحديث والمعاصر».
وها هو التاريخ يعيد ويثبت أن بلادنا بوحدتها العظيمة هي الدرع الواقي لحماية الأمن القومي العربي من أي تهديد وليس من قبل حملة الشعارات الكاذبة. والمهرولون بكل سهولة وراء كل ناعق من بائعي الكلام.