د. محمد عبدالله العوين
هنا في هذا المكان، في استديو 4 أجريت التجربة الإذاعية لي قبل أربعين عاما في منتصف عام 1397هـ وانطلق صوتي لأول مرة أمام المايك بقراءة نص لا أعلم كيف قرأته ولا بأية لغة فصيحة أديته ولا بأي صوت متحمس خطبت به!
كانت رهبة المكان تكاد تعتقلني وأمامي شخصيات إذاعية كبيرة تشرف على إجراء التجربة؛ محمد الشعلان وإبراهيم الذهبي وعدنان الدبسي، وقف الثلاثة الكبار خلف الجدار الزجاجي الفاصل يحصون علي أنفاسي قبل كلماتي كيف تنطق، يا للهول؛ كيف لي أن أواجه هؤلاء النجوم الذين كنت أستمع إليهم في طفولتي ولا أتخيل أنني يوما يمكن أن ألتقي بهم؟!
ضغط الشعلان بإصبعه وصوته الحائلي المميز وسمرته الصحراوية الأصيلة ونبرات كلماته الطاغية تملأ فضاء الاستديو: توكل على الله وتنبه لسلامة اللغة يا محمد!
لا أحصي عدد أنفاسي القلقة؛ لكنني أيضا لا أحصي عدد أحلامي الصغيرة المجنحة ولا عزيمتي واقتحامي المتوثب هذا المجهول الغامض العجيب الذي أخوضه برؤاي القروية المثالية التي لم تبدلها المدينة بعد بزخرف القول ومعسول الكلام والوجوه المتغيرة المستعارة.
في هذا المكان كان اللقاء الأول مع نفسي، وفيه أيضا بعد التجربة الأولى بسنوات قليلة التقيت مع مئات الضيوف من الأعلام في كل العلوم والفنون!
قال لي مهندس التسجيل من خلف الجدار الزجاجي الصقيل : كن بعيدا عن المايك قليلا.. تحدث ببعض الكلمات لنجري تجربة لسلامة الصوت!
ياه.. تجربة، من جديد هاهي الكلمة ذاتها تعود ترن في أذني ثانية وكأنني أسمعها لأول مرة، وكأنه لم يمض عليها أربعون عاما ! أو كأنني لم أجلس على هذا الكرسي مستضيفا لا ضيفا ربع قرن، هنا في هذا الاستديو التقيت بعلماء الدين واللغة والأدب والتاريخ والسياسية والاجتماع، هنا جلس الكتاب والصحفيون والإعلاميون والفنانون وحتى الرياضيون، هنا جلس مسئولون كبار وزراء ومدراء من كل الأجهزة في الدولة، هنا تتقاطر الذكريات والشخصيات والقضايا والبوح والشعر والتدفق والشفافية والتدوين والاقتحام الفكري والأدبي؛ مر وجلس هنا حسن ظاظا، وعمر فروخ وعبد السلام هارون ومحمد الفايز وعبد الله التركي وإبراهيم العواجي وأحمد الضبيب ومنصور الحازمي ومحمد بن أحمد الرشيد وسهيل إدريس والطيب صالح وأنيس منصور ويوسف إدريس وعبد الله بن خميس وعبد الله بن إدريس ومحمد بن سعد الدبل ومحمد بن سعد بن حسين وعبد الله نور وجاسر الحربش وأبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وتركي السديري وعثمان العمير وخالد الملك وفهد العرابي الحارثي وحمود البدر وعبد الله العثيمين ومحمد يوسف نجم وعلوي طه الصافي وعمران العمران وعزيز ضياء وسعد البازعي وإدريس الدريس ومحمد الوعيل وحمد القاضي وسعد البواردي وعبد الكريم الجهيمان ومحمد رضا نصر الله وعبد العزيز الرفاعي وأحمد الصالح وغيرهم كثيرون.
هل تستطيع الذاكرة حصر أو استعادة من جلس هنا أمامي على كرسيين متقابلين وكأننا في محكمة استجواب سرية في « بين ذوقين « ثم وجدا نفسيهما مجبرين أو مستدرجين أو طائعين مختارين للبوح وللإفضاء، أو من جلس وحده يتحدث في « ضيف الليلة « وكأنه يفضفض لنفسه ويكتب تاريخه ويسجل للتاريخ رؤاه ومواقفه،، كيف لي يا أحمد العلكمي أيها الإذاعي الأنيق المتدفق شبابا وحيوية وأنت تجلس في ذات المكان الذي كنت أجلس فيه قبل ما يزيد على ثلاثة عقود؛ كيف لي وأنت تستجرني وتدفعني إلى الحديث دفعا أن أتحدث ؟!
لقد اغرورقت عيناي بالدموع ولم أستطع أن أبدأ؛ لا لرهبة المكان كما كان الأمر في التجربة الأولى؛ بل لرهبة الذكريات وسطوتها وثقل التاريخ وتقلب الأحداث وغياب أحبة وأصدقاء وأساتذة وزملاء، كان بيننا في هذا المكان عيش وملح وصحو ونوم وكفاح وصبر ومعاناة وهموم وأفراح وأتراح، ونجاحات وصمود ومرابطة في الأزمات، كيف لي يا أحمد أن أتحدث وتمر الآن أمام عيني عشرات الصور لأساتذة ولزملاء أعزاء فقدانهم أو أقعدهم العجز والمرض؛ هاهي خيالاتهم العذبة لا يمكن أن تغيب؛ مر من هنا محمد الشعلان وإبراهيم الذهبي وماجد الشبل وغالب كامل وسلامة محاسنة وعلي غرايبة وسيد سالم ميدان وكمال البني وميسر سهيل وناصر الفركز ومحمد الرشيد وجميل سمان وناصر الراجح وحسن التركي وصالح السويدان وعبد الله الأفندي وخالد البنيان وعلي الخضيري ومنصور الخضيري ومحمد المنصور وعايض الردادي وراشد الدريهم وعبد المحسن الخلف وعبد الله الخريف ومحمد العوض وعبد الله الشهري وعبد المحسن الحارثي وخالد البنيان وخالد الشهوان، ومر منها علي برازي ومبارك بن تني وناصر الطحيني وحسين بخش وعبد الرحمن المقرن ومهدي الريمي و...
دعني قليلا يا أحمد أرتب ذكرياتي وأسدل الستار قليلا فقط قليلا على الماضي الذي تولى، فأنا لا أطيق أن أبتعد عنه لأنني أعيشه وأتنفسه بحلوه ومره بسعادته وشقائه بنجاحاته وإخفاقاته، أعيش مع من رحل أو غاب وكأنني أعيش معهم حقا كل تلك اللحظات المورقة المعطاءة التي تولت على ما كان فيها من معاناة وصبر وفقر واقتحام لإثبات الذات.
دعني أسدل الستار قليلا على عمر تولى وأتحدث معك بلغة أخرى متصلبة مدعية الشجاعة ليس فيها شجن ولا حنين.
* ورد في الجزء الأول نسبة برنامج «تحية وسلام» لماجد الشبل، والصواب أنه لبدر كريم. أما برنامج ماجد فهو «أبناؤنا في الخارج».