د. محمد عبدالله العوين
ثمة فئة من الناس تميل إلى السكون، وتخشى من تغيير عاداتها وطرائق تفكيرها وما ورثته من تقاليد؛ فتحرص أشد الحرص على المحافظة عليها، والذبّ عنها والدفاع عن حياضها؛ بل تجتهد كل الاجتهاد في توريث ما اعتادته وما ورثته من الأجداد والآباء إلى الأبناء، ولو رأى بعض الآباء تغيراً ولو طفيفاً في شخصية ابنه وحتى في مظهره الخارجي فزع أشد الفزع، واحتدّ في تقريعه وملامته، وأسمعه من قاسي الكلام ونابي اللفظ ما لم يكن يخطر في بال أي ابن أن يسمع من أبيه؛ وتكاد تنطبق على هؤلاء وأمثالهم ممن لا يريد أن يفكر بغير الطريقة التي فكرت بها الأجيال السابقة، ولا يريد أن يغير شيئاً من طبائعه وعاداته مهما اكتشف أنها ضارة أو لا منفعة فيها ولا جدوى من اتباعها والمحافظة عليها؛ تنطبق عليهم الآية الكريمة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}.
ثمة من لا يريد التغيير ولا يتوق إليه ولا تستجيب نفسه له، ولا يجد في ذاته قدرة على التكيف مع الجديد، فيذهب إلى التنفير منه وذمه وتقبيحه، والحملة على من يسعى إلى تغيير المألوف والمعتاد والموروث، وقد يذهب في سعيه إلى التنفير من الجديد الذي لم يألفه مذاهب بعيدة عن الرشد والخلق القويم، كأن يتمحك في تأويل ما يجد من أفكار أو طريقة حياة، أو تجديد في أساليب التجارة كالبنوك وأوراق النقد والعملات والتواصل مع الحضارات والثقافات الأخرى وتعلّم ألوان من المعارف الجديدة، وانخراط المرأة في التعليم أو عملها في ميدان الطب أو قيادتها لأية وسيلة نقل؛ كالسيارات مثلاً ونحو ذلك مما يجدّ مع تطور العلوم والمعارف وتفتق العقل البشري عن ابتكارات جديدة تسهل على الإنسان أمور حياته في شتى الجوانب.
إن رفض الجديد الطارئ من السلوك والعلوم والمعارف والابتكارات الحديثة ليس وقفاً على فئات من الأجيال العربية التي تصدم بالجديد فتقف أمامه مرتابة قلقة متوجسة؛ بل هو سلوك إنساني حدث ويحدث في كل الأمم والشعوب، فكم دار من ضجيج واختلافات عن حقوق المرأة في أمريكا ودول الغرب، وحقوق الإنسان بعامة، والتفرقة العنصرية ؟ ومتى وصلت المرأة إلى أن تنال كثيراً من حقوقها في الانتخاب والترشح والإدارة والوصول إلى المناصب القيادية؟ لقد قطعت شعوب العالم أشواطاً طويلة في سبيل الوصول إلى تأكيد ما تراه ضرورة حياتية لازمة، وعاشت جدلاً طويلاً بين داعٍ ورافضٍ، وكأنه صدام أو صراع حتمي بين ثقافات الأجيال والقديم والجديد.
وهو الشأن نفسه في عالمنا العربي؛ فقرب نهايات القرن الميلادي الماضي ومع إشراقات القرن الجديد 1900م دارت في مصر معارك طويلة عن تحديث التعليم وتطوير مناهج الأزهر الدينية، وعن المرأة، وعن الدستور، وهي المعارك الأدبية والفكرية التي صورت صراع الأجيال أو خصام الجديد والقديم، كما هو جلي فيما سطرّه الأدباء والمفكرون والعلماء من مؤلفات ومقالات، وهي في الحقيقة ثروة فكرية وتجربة حياتية يمكن لنا أن نستفيد منها؛ فنأخذ منها ما يعجل بنا إلى ما هو ضرورة لازمة لا بد منها، ويبعد بنا عن تكرار خطأِ بعض التجارب غير الموفقة.
وقد مرت أجيالنا القديمة بما مرت به الأجيال في أمريكا ودول الغرب والعالم العربي والإسلامي؛ فلم يكن أمراً يسيراً قبول كل جديد؛ ولذلك عانت الدولة والمتنورون من الأدباء والمثقفين معاناة شديدة مع فئة من الأجيال الرافضة للتغيير منذ بدايات توحيد البلاد على يدي المؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز ومروراً بكل المراحل والأشواط التي قطعناها في التنمية والتحديث.
وهل يمكن لنا أن ننسى ما دار من جدل طويل، ومن أخذٍ وردٍّ، ومن تمنّع وتشكّك وتقوّل حول مستجدات طرأت على الحياة الاجتماعية منذ عام 1350هـ إلى اليوم ؟! هل تغافل الرافضون اليوم للتغيير والواقفون حجر عثرة في طريق التجديد والتحديث والنهضة ما دار من خصامٍ وانقسام بين فئات المجتمع من تحدث منهم ومن التزم الصمت على رفضه تحديث مناهج التعليم كالأخذ بالعلوم الحديثة من رياضيات وهندسة وجغرافيا وعلوم طبيعية وزراعية ورياضة جسدية وغيرها ؟ ألم تكن مادة الجغرافيا مرفوضة بهذا الاسم ولم تقبل إلا باسم «تقويم البلدان»؟ ألم يكن تعليم المرأة قضية القضايا؟ ألم يكن الراديو والتلفزيون كذلك؟ ألم يكن الابتعاث أمراً مشكوكاً فيه؟
ألم يجد شبّان الستينيات الهجرية من القرن الماضي رفضاً من بعض الفئات في بعض البيئات لارتدائهم «الغترة» البيضاء بدلاً من الشماغ الأحمر؟ ألم تكن الدراجة الهوائية «السيكل» منكراً عند بعضهم ويطلقون عليه لقب «حصان إبليس»! ولا بد لراكبه من رخصة تسوغ له ضرورة استخدامه ؟
ألم يكن جهاز «الراديو» منكراً آخر لا بدّ لمن يرغب في اقتنائه من رخصة تبيح له ذلك لكونه مضطراً إلى متابعة ما يبثّه من أخبار؟
ألم تشتعل الكاسيتات في عام 1410هـ بالرفض لبطاقة المرأة؟
ألم تجد «الدشوش» من الرفض والتشنيع والاتهام بالدياثة ما دفع كثيرين ممن رأوها ضرورة إلى تركيبها في أنصاف الليالي بعد أن ينام المتلصصون؟ ألم يخبئها كثيرون في الأسطح خلف السواتر؟ ألم يتعرض بعضها لرصاصات «الساكتون»الرافضة المحتجة؟
واليوم ونحن في مرحلة تحول كبيرة؛ هل يا ترى سنعيدها جذعة ونكرر عقدة الرفض والممانعة أمام كل جديد تفرضه ضرورة الحياة؟!