د. محمد عبدالله العوين
ليست حلب وحدها التي تحترق؛ بل إدلب وحماة وحمص أيضًا، وهي المدن ذات الأغلبية السنية التي تقع بمحاذاة الشريط العلوي الممتد على ساحل الأبيض المتوسط مجاورة له من الشمال إلى الجنوب بشكل متتالٍ. ويريد النصيريون الذين يزعمون أنهم علويون تفريغ هذه المدن من أهلها الأصليين السُّنة بتدمير مدنهم بالبراميل المتفجرة، وبقتلهم أو دفعهم إلى الهجرة. ويتبيّن هذا الهدف «الديموغرافي» من إصرار نظام بشار على استخدام البراميل التي لا يعدها الخبراء العسكريون أداة حسم في المعارك؛ بل أداة تدمير للمدن واستهداف للمدنيين، لا مواجهة عسكرية مع الطرف الآخر المقاتل. ومَن يستخدم هذه الأداة الإجرامية ضد المدنيين لا يختلف بحال عمن يستخدم غاز الخردل أو غيره الذي يبيد ويقتل الإنسان والحيوان، ويلوث المياه والمزروعات والتربة بغرض الإبادة والتهجير، ولا يصنف سلاحًا مواجهًا في المعارك بين المتقاتلين. وأمثلته كثيرة في التاريخ الحديث التي صنفت جرائم حرب بإجماع علماء الأخلاق والقوانين الإنسانية، كقنبلتي هيروشيما وناجازاكي النوويتين اللتين استخدمتهما أمريكا ضد اليابانيين في عهد الرئيس الأمريكي هاري ترومان قرب نهايات الحرب العالمية الثانية 1945م؛ إذ قُتل بسبب تلك القنبلتين النوويتين «الولد الصغير» على هيروشيما و»الرجل البدين» على نجازاكي ما يقرب من ثلاثمائة ألف، إما مباشرة أو بسبب أمراض لاحقة. ومثل ذلك مأساة قصف «حلبجة» الكردية بغاز السيانيد الكيماوي عام 1988م من قِبل نظام صدام حسين؛ إذ ذهب ضحية ذلك القصف أكثر من خمسة آلاف كردي. وقد استخدم بشار الأسد أنواعًا متعددة من الغازات السامة، وقصف بها المدن السنية فقط. وقد خشيت إسرائيل من ارتداد الغازات السامة إليها مع تغير اتجاه الرياح في المدن القريبة من الحدود الإسرائيلية السورية، واستفزعت بأمريكا وبعدد من الدول الغربية؛ فأعلن الرئيس الأمريكي «أوباما» أن استخدام الكيماوي خط أحمر! وتوقف بشار عن استخدامه في المدن المحاذية لإسرائيل، وقامت أمريكا ودول أوروبية بدعم من الأمم المتحدة بالتنقيب عن مخازن الكيماوي المحاذية لإسرائيل، وجمعها، ورميها في أعماق المحيطات البعيدة جدًّا خوفًا من أن تقع في أيدي الجماعات «الإرهابية»، وتستخدمها ضد إسرائيل.
أما أن يستخدم بشار الغازات ضد السوريين السنة بعيدًا عن الحدود الإسرائيلية أو أن يقصفهم بالبراميل المتفجرة فهو أمر متفق عليه بين الدولتين الكبيرتين اللتين تقودان صياغة الهلال الشيعي الفارسي في المنطقة العربية، وهما أمريكا وروسيا.
فالروس ينفذون أو يكملون مهمة تنفيذ تفريغ المدن السورية بالتعاون مع الحرس الجمهوري الإيراني وكتائب حزب الله الإرهابي وجماعات شيعية عراقية متطرفة ذات توجُّه فارسي، بالتضافر مع «الجيش العربي السوري» الباسل! وإبادة سكانها، إما بالقتل أو التهجير، وتدمير المدن السنية تدميرًا كاملاً بحيث لا يمكن أن تكون صالحة للسكن. وقد قُتل من جراء ذلك عشرات الآلاف، أو فُقدوا تحت الأنقاض، وهُجّر أيضًا عشرات الآلاف إلى بلدان الجوار أو إلى منافي العالم، ومات مئات منهم جوعًا أو مرضًا أو إنهاكًا أو غرقًا في البحار.
إن الغاية المكشوفة الواضحة للعيان من حرق المدن السورية هي ضم هذه المدن الأربع (حلب وإدلب وحماة وحمص) إلى الشريط العلوي على الساحل؛ لتكون امتدادًا للمدن النصيرية العلوية (كاللاذقية وطرطوس وبانياس والقرداحة). ولأن أغلب سكان تلك المدن الأربع سنة فلزم أن يتم قلب النسبة؛ ليكونوا لاحقًا بعد التدمير والقتل والتهجير من براميل بشار وقصف السوخوي الروسية نسبة قليلة، لا تشكل أي خطر على الوجود النصيري في سوريا.
وقد اشتغل نظام بشار الدموي الطائفي - وفق خطة مدروسة من إيران، وبموافقة الدولتين الكبيرتين - على استهداف مدن أخرى، أغلبيتها سنة، متفرقة في الخارطة السورية، كما هو الحال في دير الزور ودرعا وغوطة دمشق ومخيم اليرموك وغيرها، ولم يسلم حتى الدروز من استهداف النظام؛ فأراد إذلالهم وتركيعهم لسلطته بقصف مدينتهم السويداء.
وقد تضافر في تنفيذ مخطط التهجير وتمكين نظام بشار تنظيم «داعش» الإرهابي الذي ينفذ أيضًا مجازر القتل والتهجير، ومنحه النظام مدينة «الرقة» السورية؛ لتكون عاصمة له، ومنحه النظام العراقي العميل لإيران مدينة الموصل العراقية. واشتغل أيضًا في تنفيذ الخطة من طرف آخر ما سمي بـ»الحشد الشعبي» العراقي؛ فلا فرق أبدًا ولا اختلاف بين داعش والحشد وبشار وحزب الله.
الغاية الشريرة الواضحة المكشوفة هي تمكين إيران من المنطقة العربية، وإضعاف العرب السنة، وتفتيت بلدانهم باتفاق مع الغرب.