د. عبد الله المعيلي
من عجائب النفس البشرية وغرائبها، أنها تطغى عند البعض على مفاهيمه ومشاعره بصفة مستدامة، وتطبع نظرته للآخرين برؤية سوداوية طابعها الريبة والشك، وتغليب سوء الظن، ولا يكلف سيئ الظن نفسه البحث في الاحتمالات الإيجابية وتغليبها على الرغم من كونها أوضح من الشمس في رابعة النهار، بل تجده يصرف النظر عن هذا عامداً متعمداً، ويلجأ إلى احتمالات متكلفة سوداوية يصنعها من عنده ربما لم تخطر على بال الطرف الثاني البتة، وعندما تناقشه لماذا يسيء الظن؟ يرد السوداوي وبكل برود قائلاً: إن من تعتقد أنني أسيء الظن به إنما يقصد بأسلوب غير مباشر كذا وكذا، ثم يستعرض معك ويسرد احتمالات ملاخولية لم تخطر ببال من أسيء الظن به، ولم يفكر فيها البتة، بل هي مجرد أوهام مرضية وهواجس في مخيلة سيئ الظن، تأسر أفكاره، وتطغى على تفكيره، فإذا به لا يرى حسناً مهما حاولت إقناعه وبيان الحق له، لا ينصرف أبداً مهما كانت محاولات الإقناع مخلصة واضحة بينة، لا يمكن أن يحول عن تأويلاته الحول المشوهة الظالمة المظلمة.
وعندما تداخل مع السوداوي في نقاش وتقول له: اتق الله، الرجل لا يعني ما ذهبت إليه، ولا خطر في باله، ولا في قوله ما يوحي بذلك، ولا ما يدل أو يشير إليه من قريب ولا من بعيد، ومع هذا يصر سيئ الظن بكل تكبر وتعنت على موقفه، وبكل بجاحة يقرر أن وراء الأكمة ما وراءها، وما علم المسكين أن ما يدعيه مما وراء الأكمة إنما هي الظنون والهواجس المرضية التي تتسم بها نفسه المريضة المضطربة، والدوائر السود التي تطغى على فكره وتفكيره، فجعلت بصائره تعمى عن رؤية الحق والإقرار به، فإذا هو مطية سهلة لشهوة التأويل، وتحميل الأمور ما لا تحتمل، وتوجيهها وجهة خاطئة ظالمة.
من سمات هذا المسكين الظالم نفسه، أنه مهموم النفس مغموم كئيب، مكفهر الوجه غضبان، ترتسم بين حاجبيه علامة 11 من شدة توتره، وهمه وغمه، متعب نفسه مقلقها، شاغل وقته بتتبع المقولات والمواقف كي يشبع نهم نفسه المريضة بشهوة التلذذ بالتأويل ولي الحقائق وتصويرها خارج أطرها التي يفهمها عموم الأسوياء، المنعم عليه بسلامة الصدر من الحقد والكراهية، الذين يحملون قلوباً طاهرة، وعيون تنظر بمنظار إيجابي، حيث يقدمون الاحتمالات الإيجابية على غيرها من الاحتمالات حتى وإن كان في المقولة ما يوحي بغير ذلك.
العجيب الذي يجعل الحليم حيران في فهم الذين ديدنهم إساءة الظن بالآخرين، على الرغم مما يبدو في ظاهرهم من سمات التدين، فهم الأولى في الاهتداء بهدي القرآن، على الرغم من ذلك إلا أن قول الله تعالى المحكم الواضح الدلالة لا يستوقفهم ولا يردعهم، ولا يوظفون ما يعلمونه بالضرورة من هدي القرآن، مما يوحي بأنهم لا يأبهون به، ولا مرجعية له في أدوات تفكيرهم، فكأنهم لم يقرأوا في القرآن الكريم، آية تسمو بالنفس غاية السمو، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات.
إن من يقرأ هذه الآية الكريمة، ويستوعب دلالة الأمر الرباني المحكم في دلالته، لا يسعه أبداً إلا أن يتجنب حمى الظن ويبتعد عنه نظراً لما في الظن من بشاعة وتجن وظلم، ومع هذا يبقى في بني البشر من يغلبه هوى النفس الأمارة بالسوء، فهو لا يرى الأمور إلا وفق رؤيته السوداوية المتأصلة في وجدانه، لهذا فمهما كانت النصائح مخلصة، وكان الحث على تقوى الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه، إلا أن نفسه الفاسدة تغلب كل جهود، وتتكسر على أسوارها كل سبل الزواجر التي تخشع لها القلوب المؤمنة المهتدية. إن الأشخاص الذين هذه سماتهم توجب على كل من يحترم نفسه أن يخسرهم عاجلاً، ففي خسارتهم ربح كبير.