د. عبد الله المعيلي
في حياتنا اليومية، وعلاقاتنا الشخصية، نشاهد العديد من الوجوه، وجوه مسفرة مبتسمة مستبشرة، يكسوها الجلال والهيبة والاحترام، هؤلاء لهم في القلوب منزلة ومحبة وتقدير، صحبتهم تدوم مهما طال تباعد الوجوه عن بعضها الآخر، إلا أنهم حاضرون في الوجدان، حتى وإن طالت غيبتهم عن التواصل والعيان، فهؤلاء خيار كرام، تشتاق لرؤيتهم العيون، وتسر بقربهم القلوب.
وأخرى عليها قترة و قتامة وكآبة، تكسوها الظلمة والحقارة والاحتقار، لهم في القلوب وحشة ونفرة وكره، حتى وإن تواترت رؤيتهم وتظاهروا بمشاعر الحب والتقدير والاحترام، وتقارب تواصلهم والاتصال بهم، فهؤلاء من أشر الناس، وأشدهم سوءاً.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه (سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن شر الناس ذو الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)، كفى هؤلاء مقتاً، أن يحكم عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم (شر الناس).
حقاً إنه من شر الناس، لأنه وأمثاله الأشرار، مخادع كذاب، متلون متقلب، حقير ذليل، لا مروءة له، ولا كرامة عنده، لا مبادئ تحكمه، ولا قيم تردعه، ولا مروءة تضبطه، يجول بين هؤلاء وهؤلاء مثل الشيطان الرجيم يؤلب هذا على ذاك، يزوِّر كلامهم، ويشوِّه مواقفهم، يثير أحقادهم، ويشتت شملهم، يوسِّع الهوة بينهم، والجفوة في علاقاتهم، والفجوة بين أوجه تقاربهم، يكذب عليهم، ويزور مواقفهم وأقوالهم.
ومن صور شرهم، التملق في الوجه، والطعن في الظهر، يتكلف حلو الكلام عند التلاقي، ويطلق أقذع الأوصاف والألفاظ حين التواري و التفارق، لا يتمعر وجهه مما يبطنه في باطنه، ولا يخجل مما يضمره في ظاهر أمره وحقيقته، إنهم أناس كما يقال: مغسولة وجوههم بمرق، وتتفاوت تلك الوجوه بحسب مكونات المرق، فمرق البامية يختلف عن مرق الفاصوليا عن مرق الخضرة المشكلة عن مرق البهارات الحارة الحارقة، كل له نكهته وله خاصيته، لكن يبدو أن أشدها بجاحة ووقاحة الوجه المغسول بمرقة البهارات الحارة، فهو يبقى حاراً لاذعاً مهما حاولت إطفاءه وتبريده.
رحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:
لا خير في ود امرئ متلون
حلو اللسان وقلبه يتلهب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
يلقاك يحلف أنه بك واثقا
وإذا توارى عنك فهو الثعلب
قد يقول قائل: كيف أعرف هؤلاء؟ فالسرائر لا يعلمها إلا الله، هذا صحيح لكن الفطن يستطيع أن يتعرف على ذي الوجهين من خلال جملة من المؤشرات الدالة على هذه السمة البغيضة، فأي خلق يتخلقه الإنسان يُعرف، وتُعلم حقيقته وزيفه، فالأخلاق الأصيلة باقية، والتخلق لا يبقى مهما حاول المتخلق إخفاءه، يقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فمن المؤشرات الدالة على ذي الوجهين، التكلف الزائد جداً عند اللقاء، والتزلف بمعسول الكلام، والإسراف في المدح، والخنوع والتذلل، والنفاق في الكلام، والموافقة المطلقة، وتأييد المواقف دون تمحيص أو تدقيق أو مناقشة.
اعلم أن هذا وأمثاله (أبو وجهين)، لذا تخلص منه حالاً وأنت الرابح.