ناصر السهلي
لم ينتابني هاجس الكتابة مثلما أصبح بعد إقرار رؤية المملكة 2030م، ستقف أجيالنا ومن بعدهم على عتبات ذلك العام، ترتقب بعد سلسلة طويلة جداً من العمل الدؤوب، تستمطر الأفكار نحو تحول وطني يدعم اقتصادنا المعرفي وفق هذه الرؤية.
يعتبر قطاع التعليم من أهم القطاعات الحيوية التي تؤثر في المجتمع وله صلة وثيقة في الاقتصاد الوطني، ومتى ما نجح التعليم في المخرجات ساعد ذلك في دفع عجلة التطور الاجتماعي والتنمية الاقتصادية المستدامة في البلاد.
لقد كان نجاح الشركات في اليابان والصين وغيرها بسبب تعطشها وفهمها للمعرفة وتشديدها على التدريب فقد كان السر الأول للنجاح الياباني هو التعلم ثم التعلم ثم التعلم أما السر الثاني فكان تطبيق المعرفة الجديدة بشكل تجاري مبتكر والسر الثالث السرعة في إنجاز هذا العمل على أرض الواقع».
لا أحد يختلف على أهمية التعليم والتعلم في حياة الفرد والمجتمعات والشعوب فكل الدول التي أحرزت تقدماً، عبرت من خلال بوابة التعليم، بل أن الدول المتقدمة تضع التعليم في أولوية برامجها وخططها وسياساتها.
ما يشهده العالم اليوم من تحولات وتغيرات على كافة الأصعدة ألقى بظلاله على العملية التعليمية في كل أصقاع وبقاع الدنيا وأثر على مخرجات التعليم باعتباره نظاماً اجتماعياً فرعياً داخل إطار المنظومة المجتمعية الشاملة ومع هذا التحولات تغيرت وتبدلت أنماط الحياة ووسائل الاتصال وأصبح العالم يعيش نتاج ثورة التكنولوجيا المتطورة والمعرفة الأمر الذي يستدعي -الدول- إجراء عمليات إصلاح جذري على منظومة التعليم بكل عناصرها وفئاتها المستهدفة ولا سبيل لتغيير الواقع ومواجهة المستقبل إلا بهذه الإصلاحات.
إن أي جهد يستهدف الاصلاح والتطوير بغية الوصول لأهداف الرؤية 2030 دون أن يستند إلى تصورات واضحة لدور التعليم مستقبلياً في ضوء هذه التغيرات المتسارعة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعولمة النشاط الانساني هو جهد ضائع لا فائدة منه إذا لم يتواكب مع الانفجار المعرفي وثورة «المعرفة» التي حولت الاقتصاد من اقتصاد مبني على الآلة والموارد الطبيعية التقليدية، إلى اقتصاد مبني على المعرفة، أو ما يعرف بعصر «اقتصاد المعرفة» Knowledge Economy.
لذا ركزت الرؤية على ضرورة تطوير التعليم وخصخصته وفتح الفرص للاستثمار فيه بطريقة تبعث على توليد المعارف وتحقق فرصاً داعمة للاقتصاد الوطني.
فنحن اليوم وبعد إعلان رؤية المملكة 2030 أمام موضوع شائك لمعالجة منظومة متكاملة من «المهارات الحياتية» التي يكتسبها طلاب المدارس ويمارسونها سلوكا في حياتهم العامة مما يشكل لهم خبرة ثمينة يفيدون منها في مواجهة مشاكل مقبلة يفرزها عالم تثور فيه وتتفجر منه» المعرفة» ما يحتم على الأنظمة التعليمية في المملكة الأخذ بأسباب التعلم والتفكير وتسليح الطالب بكيفية الوصول لصناعة المعرفة وتوليدها وتداولها بدلاً من حشو ذهنه كل يوم بعلوم ومعارف كثيرة لا تفيده في الحياة. عدد من المهارات الحياتية التي يحتاجها الطلاب مثل (اتخاذ القرار، الحوار، التطوع، التفكير الناقد، صناعة المعرفة، التواصل اللفظي، التفاوض، الاقناع، تطوير الذات والقدرات، مواجهة المواقف الضاغطة، الثقة بالنفس، الوعي الغذائي والصحي....وغيرها من المهارات) ستلعب دوراً في المرحلة المقبلة خاصة في ظل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والثورة المعرفية، الأمر الذي يتوجب على مؤسسة التعليم في المملكة أن ترصد وتتعامل مع كافة المسارات سواء منها ما يرتبط بالمقررات الدراسية بشكل مباشر وما ليس له علاقة به كنشاط لاصفي، وأن تعمل المدارس على خلق ممارسات اجتماعية إيجابية متنوعة وعديدة تشجع الطلاب على الإسهام فيها والإفادة منها وتؤدي بالتالي إلى بناء علاقات شخصية واجتماعية لهم.
لقد تنبه الاقتصاديون منذ وقت مبكر إلى أهمية الاستثمار في رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب، وقد حاول بعض الاقتصاديين فيما بعد قياس العائد من التعليم وتحديد مقدار مساهمة التعليم في النمو الاقتصادي وربط الدخل بنفقات التعليم ويتجلى الدور بين التعليم والنمو الاقتصادي من خلال تحسين عدد من المهارات والقدرات الانتاجية للقوى العاملة.
وأثبتت بعض الدراسات أن للتعليم مساهمة مباشرة في زيادة الدخل الوطني وذلك من خلال رفع كفاءة وانتاجية الأيدي العاملة وأن هناك علاقة إيجابية بين نمو الانفاق التعليمي والنمو الاقتصادي.
لذا يجيب الدكتور إحسان بو حليقة في مقالة صحفية على التساؤل هل للإنفاق على التعليم مردود اقتصادي على الفرد وعلى البلد؟ إذ يقول الانطباع العام أن له مردودا إيجابيا، أما عند الخوض في الدراسات المتخصصة التي حاولت الإجابة عن هذا السؤال فسنجد قدراً هائلاً من التفاوت بين الدول؛ فمنها من قَطَرَ التعليم اقتصاداتها لآفاق رحبة ومنها مَن لم يحدث الانفاق على التعليم أثراً، بل من الدراسات مَن خَلصت إلى أن الأثر كان سالباً! وهكذا، أشارت العديد من الأبحاث التي أجريت في أنحاء العالم إلى أن للتعليم أثراً إيجابياً كبيراً يفوق رأس المال. و على النقيض، شككت دراسات متأخرة في قياس ذلك الأثر. وبالقطع، فالعلاقة تتفاوت من دولة لأخرى، وتتغير من حقبة زمنية لأخرى. ولذا فمن المهم تتبعها ورصدها عن كثب حتى لا يكون الانفاق على التعليم عشوائياً أو تقليدياً أو تلقائياً يفتقد رؤية تحققها أهداف ضمن إطار زمني مُحكم ومن الدراسات القليلة التي تناولت العلاقة التبادلية بين التعليم والنمو الاقتصادي في المملكة ما أجراه الباحثان عبدالله بن محمد المالكي وأحمد بن سليمان بن عيد في دراسة بعنوان «التعليم والنمو الاقتصادي في المملكة العربية السعودية: دراسة قياسية باستخدام المعادلات الآنية»، والتي نشرتها مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، 2004، صفحة 46.
استشهد الباحثان بالأدبيات لبيان أن هناك سببين للاعتقاد بأهمية التعليم؛ الأول أن هناك طلبا جماهيريا كبيرا على التعليم ولاسيما التعليم العام في الدول كافة، والثاني للعلاقة القوية بين التعليم والدخل على مستوى الفرد والدولة متتبعين الأدبيات المعتبرة التي أثبتت أن للتعليم مساهمة مباشرة في زيادة الدخل القومي في أي دولة، وذلك من خلال: رفع كفاءة وانتاجية الأيدي العاملة، وأن تلك المساهمة إيجابية، مما يعني أن النمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدول مرتبط بقدرتها على إعداد وتنمية المورد البشري حيث استشهدت الدراسة بما توصل له البرفسور روبرت سولو بأن التعليم والمعرفة والتقدم التقني والأبحاث العلمية تمثل عوامل مهمة لزيادة الإنتاج، وبدراسة أخرى للبرفسور أود أوكرست على الاقتصاد النرويجي توصل فيها إلى أن زيادة رأس المال بمقدار 1 بالمائة تؤدي إلى زيادة الإنتاج بمعدل 2 بالمائة، وزيادة كمية العمل بمقدار 1 بالمائة تؤدي إلى زيادة الإنتاج بمقدار 0.7 بالمائة، أما تطوير مستوى العاملين فيؤدي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي للنرويج بمعدل 1.8 بالمائة سنوياً.
وأبرزت الدراسة نتائج دراسة أخرى أجراها البرفسور دينيسون على الاقتصاد الأمريكي لفترة خمسين عاماً (1910-1960) توصل من خلالها الى أن زيادة الاستثمار في التعليم يساهم بنحو 23% من النمو في الناتج القومي الإجمالي، ويرى دينيسون أن زيادة نمو الاقتصاد الأمريكي يتوقف بدرجة كبيرة على التعليم، فقد بين في بحث آخر له أن 21 %من النمو الاقتصادي الذي حققه الاقتصاد الأمريكي خلال الفترة 1921-1957 يعود إلى التعليم.ويعود د. بو حليقة ليؤكد لنا أن هناك دراسات عربية بينت وجود علاقة سالبة بين المدرجين في التعليم الابتدائي وبين الإنتاج القومي العام في الدول النامية. منها دراسة محلية بينت أن للتعليم أمرا واضحا في تحسين أجر العامل، حيث يصل إلى 25% عند زيادة المؤهل التعليمي بمرحلة واحدة بينما زيادة سنوات الخبرة بسنة واحدة تزيد الأجر بحوالي 8.5%».
فيما أظهرت دراسات أخرى أهمية الاستثمار في رأس المال البشري وأن أجر الموظف سيزداد بنسبة 25% عند زيادة المستوى التعليمي بسنة واحدة وتناولت دراسة ثالثة مفهوم العلاقة بين المستوى التعليمي والأجر للموظفات السعوديات بمدينة الرياض أكدت أن تأثير المؤهل التعليمي على الأجر أكبر من تأثير سنوات الخبرة مما يحتم على المؤسسة التعليمية ضرورة الاستثمار في التدريب.
من هنا ظهر في أدبيات التعليم مصطلح جديد هو «اقتصاديات التعليم» وهو ما يشير إلى اسهام التعليم في تحديد مستوى إنتاجية العمل ومن ثم في مستوى النمو الاقتصادي، من جهة وتحديد مستوى التعليم والإنفاق عليه من جهة أخرى. إن المواءمة بين مخرجات نظام التعليم وحاجات الاقتصاد الوطني من اليد العاملة هو أحد المؤشرات لتطور النظام التعليمي، يضاف إلى ذلك التشابه الكبير بين القطاع التربوي والقطاع الاقتصادي فكلاهما يشتمل على عمليات إنتاجية واستهلاكية، فالتعليم في جزء منه عملية إنتاجية يشترك فيها المعلمون والطلبة والإدارة والمناهج والتقنيات ورؤوس الأموال لإنتاج مخرجات من العلوم والمعارف والمهارات يحصل عليها الخريجون لتوظيفها في الأعمال الاقتصادية والحصول منها على دخل معين، كما أنه في جزء آخر منه عملية استهلاكية تتضمن تلبية حاجة المتعلمين إلى التعلم والمعرفة،وهكذا يجري تحليل العملية التربوية تحليلاً اقتصادياً من حيث المدخلات والمخرجات والعائد المترتب عليها إضافة إلى الحاجة التي تشبعها، فالمدار س في أمريكا تشبه المصانع في القرن العشرين كما شبهها توفلر في كتابه الثروة واقتصاد المعرفة.لذا فإن المؤسسات التعليمية في المملكة والتي تقع تحت مظلة وإشراف وزارة التعليم تجد نفسها أمام مسؤولية وطنية كبرى ألا وهي تجسير الفجوة بين التعليم والتنمية، وبين المدرسة والمصنع، وبين مخرجات التعليم وما تحتاجه حركة الاقتصاد والتجارة وسوق العمل في المملكة، وربما كان ذلك أحد أبرز الأسباب في دمج وزارتي التعليم والتعليم العالي تحت مظلة واحدة.دعونا نتوقف قليلا عند عبارة لـ(توفلر) إذ يقول: «مع أن المعلمين يحبسون الأطفال في الصفوف، إلا أن آذانهم وعيونهم وعقولهم تهرب بعيداً وتحلق في أرجاء الفضاء الفسيح، هؤلاء الصغار يدركون منذ نعومة أظفارهم أنه لا المدرس ولا المدرسة يمكن أن توفر لهم ولو جزءً صغيراً من المعطيات، والمعلومات، والمعرفة، - والمتعة - التي توفرها لهم الإنترنت، فهم يدركون أنهم أسرى في كون لكنهم أحراراً في كون آخر».
إن بناء المعرفة اليوم أصبح يرتكز على العلم والاتصال التقني، فالتضخم المعلوماتي وتطور البحث العلمي وظهور مجتمع الشبكات والمعارف ظواهر متداخلة فيما بينها،ومن المرجح أن المؤشرات في النظامين التعليمي والإعلامي لا تخبرنا بما ستؤول إليه العلاقة بينهما ولا كيف لها أن تتوائم لتسير في خط مستقيم ومتزامن يعزز كل منها دور الآخر، وما نشاهده اليوم من تخلف في بعض مهارات الحياة لدى الصغار يجعلنا نقف أمام مرحلة مهمة من التعليم يعزز من وجودها الإعلام.
في عام 2005 وصف بيل جيتس النظام في المدارس الثانوية في الولايات المتحدة بالعتيقة وقال «لا أعني أنها محطمة ومليئة بالأخطاء وتعاني من قلة الموارد المالية.. ما أعنيه بكلمة عتيقة أن ثانوياتنا حتى وهي تعمل كما خطط لها، لا تستطيع أن تعلم أولادنا ما يحتاجون إلى تعليمه اليوم وهذا ليس مجرد خلل في النظام إنه النظام بالذات». ولكي نتحول إلى مجتمع قائم على اقتصاد معرفي في وقت أعلنت الدولة عن رؤيتها المستقبلية خلال الـ15 سنة القادمة يجب أن لا يقتصر تقدمنا العلمي والمعرفي على مجالات محددة ولا على فئات مجتمعية دون أخرى، وهو ما يوجب إتاحة الفرصة لمن هم (فوق الثلاثين)، بمواصلة التعليم المتقدم (ماجستير ودكتوراه) ويجب أن لا تنفرد منطقة بنهضة تعليمية عن أخرى حيث إن (توازن الفرص) من أساسيات تحقيق النجاح، يجب أن ينطلق التحول الوطني - أحد برامج رؤية المملكة 2030- من المدارس، والجامعات، وبيوت الخبرة، ومراكز الأبحاث؛ فالحكومات والوزارات لا يمكن أن تحدث شرارة التغيير بدون تحرك تلك المؤسسات الفكرية والإبداعية القادرة على إشعال جذوة التحول المعرفي في البلد.