أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
متى عاش (موسى، عليه السلام)؟ وأي خطّ كتابيّ كان في العالم أجمع في عهده؟ أكانت هناك في عصر موسى كتابة عِبريَّة أو سريانيَّة أصلًا؟ نحن هنا نتعامل مع التاريخ، ولتاريخ نشوء الكتابة في العالم مسار معروف. وفنّ الكتابة في عصر موسى كان إمَّا الكتابة التصويريَّة، أو الكتابة المقطعيَّة، أو الكتابة الحروفيَّة الأبجديَّة. الأُولى هي الهيروغليفيَّة التصويريَّة المِصْريَّة، والثانية المسماريَّة المقطعيَّة العراقيَّة، والثالثة الأبجديَّة الفينيقيَّة. فأيّ كتابة عِبريَّة، وأيّ سريانيَّة، كانت في عصر موسى؟! بل أيّ كتابة أو قراءة كانت في الجزيرة العربيَّة في عصر موسى؟! تلك هي الضروب الثلاثة من الكتابة التي كانت متاحة في العالم خلال الحقبة التي عاش فيها موسى، أو قُل خلال القرن 13 و14ق.م. وكانت الكتابة الأبجديَّة قبل القرن العاشر قبل الميلاد في بداياتها، وبالفينيقيَّة تحديدًا، وهي محدودة الاستعمال، وفي الأغراض التجاريَّة غالبًا. إن القفز على هذه الحقائق قفزٌ على العِلْم والتاريخ إلى ضروب من الأساطير المجّانيَّة.
حين نتأمَّل في تاريخ كتابة «التوراة»، إذن، سيتبدَّى جليًّا عوارُ أيِّ فرضيَّة لتاريخ (بني إسرائيل) في الجزيرة العربيَّة. إذ يأتي التساؤل الحتمي: بأي فنٍّ كتابي كان يكتب موسى أو يقرأ؟ أ بالمسماريَّة المقطعيَّة العراقيَّة؟ أم بالهيروغليفيَّة التصويريَّة المِصْريَّة؟ أم بالأبجديَّة الفينيقيَّة؟ فهذه الضروب الثلاثة من الكتابة كانت هي المعروفة في عصره لدى البَشَر. وقد كانت الكتابة الأبجديَّة، نشأت قُبيل القرن العاشر قبل الميلاد، في مدينة (جبيل/ بيبلوس) اللبنانيَّة، الواقعة على ساحل المتوسِّط شمال (بيروت).(1) فكانت فتحًا حضاريًّا، اقتبسته الثقافات الكتابيَّة شرقًا وغربًا. وأمّا المسماريَّة، فبَعيدة الاحتمال جدًّا في استعمال موسى وبني إسرائيل في ذلك الطور المبكِّر. فإنْ كانت من كتابة في بني إسرائيل إذ ذاك، فبالكتابة التصويريَّة المِصْريَّة، لا غير. و»التوراة» تشير إلى أن وسيلة ذلك كانت النقش على الحجر.(2) ومؤدَّى ذلك أن الاعتماد الأكبر كان بالضرورة على الحِفظ والترديد، بحسب الثقافة الشفاهيَّة البدائيَّة. ومن هنا كان لا بدّ من النظم الموسيقي، والإنشاد الشِّعري، والمزامير والغناء، في ذلك الجيل وما تلاه. ومثالب الذاكرة الشفاهيَّة، والرواية السماعيَّة، وآليَّات عملهما- القابلة للخلط والنسيان، والإضافة والنقصان، وترديد الصِّيَغ الجاهزة- أمور يعرفها ذوو الاختصاص.(3) وهي إلى ذلك آليَّة جماعيَّة، تذوب فيها الفرديَّة غالبًا في اللسان الجمعيّ. ولها تأثيراتها في أنماط الوعي والتفكير والتعبير، المنعكسة بدورها على مخرجات هذه الثقافة الشفاهيَّة بشتَّى حقولها وأشكالها. وبذا كانت عوامل الاضطراب متظافرة جدًّا، وأسباب الضياع كثيرة، وطُرق التناقض واردة، وبخاصَّة مع عدم الاستقرار، والكوارث التي تتالت على بني إسرائيل. أمَّا تلك الأسفار المسطورة في مجلَّدها الضخم، فنتاج قرون لاحقة من التدوين التاريخي الجماعي، تمخّضت عن معظمه سنينُ السبي البابليّ وما أعقبته من ذكريات، كانت ترتبك بها الأقلام والأساليب بين كاتب وكاتب. وخذ مثالًا على ارتباك الأسلوب، الدالّ على تعدّد الكَتَبة، وترقيع النصّ من واحد إلى آخر. وردَ في (سِفر الخروج، الإصحاح الرابع: 21- 26)، ما يأتي: «وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «عِنْدَمَا تَذْهَبُ لِتَرْجعَ إِلَى مِصْرَ، انْظُرْ جَمِيعَ الْعَجَائِبِ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِي يَدِكَ وَاصْنَْهَا قُدَّامَ فِرْعَوْنَ. وَلكِنِّي أُشَدِّدُ قَلْبَهُ حَتَّى لاَ يُطْلِقَ الشَّعْبَ. فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي، فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ». وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ. فَأَخَذَتْ صَفُّورَةُ صَوَّانَةً وَقَطَعَتْ غُرْلَةَ ابْنِهَا وَمَسَّتْ رِجْلَيْهِ. فَقَالَتْ: «إِنَّكَ عَرِيسُ دَمٍ لِي». فَانْفَكَّ عَنْهُ. حِينَئِذٍ قَالَتْ: «عَرِيسُ دَمٍ مِنْ أَجْلِ الْخِتَانِ».»
فمَن الذي التقاه الربُّ؟ وطلب ممَّن؟ ويقتل مَن؟ شُرّاح «التوراة» يقولون: إن المطلوب قتله هو موسى! لماذا؟ مع أن الربّ كان مذ قليل قد وجّهه إلى (مِصْر) لدعوة فرعون لإطلاق سراح بني إسرائيل للخروج معه، وهو في طريقه لتنفيذ الأوامر؟! لأن موسى لم يختُن ابنه؛ فبادرت امرأته (صَفُّورَة) إلى إنقاذ الموقف «الانقلابي» بين موسى وربّه، بختان الطفل، واسترضت بدمه موسى وربَّه معًا! ذلك أنه قد كان جاء في (الإصحاح الثاني: 21- 22) من هذا السِّفر، عن كاهن (مَدْيَن): «فَأَعْطَى مُوسَى صَفُّورَةَ ابْنَتَهُ. فَوَلَدَتِ ابْنًا فَدَعَا اسْمَهُ (جَرْشُومَ).» فانظر إلى هذا المضطرب العجيب، مبنىً ومعنًى! ونظائر هذا متنوِّعة.
إن مسألة الكتابة هذه مسألة مهمَّة في سَبر إمكانيَّة أن يكون بنو إسرائيل قد عاشوا في الجزيرة العربيَّة أصلًا. إذ هل كانت هناك لغة مكتوبة في الجزيرة العربيَّة في عصر موسى، من أيّ نوع؟ فمع التسليم بالمتواتر، وبالمذكور في «التوراة» و»القرآن»، من أن موسى كان يقرأ ويكتب، بل إنها قد جاءته الألواح مكتوبة جاهزة، لا بدّ من السؤال: بأيّ خطّ كُتبتْ؟ كانت الكتابة عصرئذٍ، في بلاد الرافدين وفي مِصْر، على الصخر، وألواح الطين، والخشب، ورقائق البَرْدِي. فلا عِبريَّة كان لها خطٌّ في ذلك الزمن ولا عربيَّة، وإنما نشأت خطوط هاتين اللغتين فيما بعد، وتطوَّرت تدريجيًّا، وببطء شديد على مدى قرون. الأرجح، إذن، أن كتابة بني إسرائيل كانت بالهيروغليفيَّة المِصْريَّة، التي تمثِّل ثقافة البيئة الأُمّ إبّان إقامة القوم بمِصْر. وما عَثَرَ عاثر، ولا سمع سامع، أن الهيروغليفيَّة كان لها وجودٍ في (عسير) أو (جبال السَّراة)، أو غيرهما من جنوب الجزيرة العربيَّة، على مدى التاريخ. وعليه، فلا مناص من أن نبحث عن «توراة» أخرى تتفق مع السياقات الثقافيَّة والحضاريّة والتاريخيَّة التي كانت قائمة في الجزيرة العربيَّة قبل الألف الأول قبل الميلاد بقرون، كي تتعقلن النظريَّة المبتدعة لدى (كمال الصليبي) و(أحمد داوود)، وغيرهما من التبابعة! وحتى نعثر على تلك «التوراة» الخاصَّة، سيظلّ القول بنقل البيئة الكتابية للتوراة المعروفة من (مِصْر) و(الشام) و(العراق) إلى (جزيرة العرب) ضربًا من الهرطقة الرومانسيَّة، معرفيًّا وتاريخيًّا، نربأ بالبحث العلمي عنها. أمَّا الاكتفاء بمقارنة أسماء الأماكن، فما أسهله من مركب!
من هنا يلزم وضع المزاعم الذاهبة إلى أنه عُثر في مكان ما على نسخةٍ من «توراة» موسى في ضوء الحقائق التاريخيَّة لمراحل الكتابة نشوءًا وارتقاءً في العالم.(4) فإنْ كانت لموسى من توراة مكتوبة، فلا بُدّ أنها كانت بسيطة جدًّا، ومحدودة، ومعتمدة على التصوير الهيروغليفي. ونحن نعلم، حتى من خلال القصص التوراتي والقرآني، بدائيَّة الأدوات الكتابيَّة إذ ذاك، وأن موسى كان يعتمد في الكتابة على الألواح الحجريَّة، حتى إنه حين نزل من الجبل، في أعقاب علمه باتِّخاذ قومه العِجلَ معبودًا، ألقى الألواح فتكسَّرت.(5) على الرغم ممَّا تذكره «التوراة» من أنهما: «لَوْحَانِ مَكْتُوبَانِ على جَانِبَيْهِمَا، مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا... واللَّوْحَانِ هُمَا صَنْعَةُ اللهِ، والكِتَابَةُ كِتَابَةُ اللهِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى اللَّوْحَيْن.»(6) وهما من حجارة، كما في نصّ «التوراة»: «اصْعَدْ إِلَيَّ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ، فَأُعْطِيَكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتَعْلِيمِهِمْ.»(7) وكانا: «لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإِصْبعِ اللهِ!»(8) فكيف بما كان من صنعة البَشَر، وما هو مكتوب بأصابعهم الهزيلة؟!
***
(1) عن الفينيقيّة يمكن الرجوع إلى كتاب (مازيل، جان، (1998)، تاريخ الحضارة الفينيقيَّة (الكنعانيَّة)، ترجمة: ربا الخش (اللاذقيَّة: دار الحوار). (2) انظر: سِفر الخُروج، 24: 12.
(3) يُنظر في هذا مثلًا: Lord, Albert B., (1974), The Singer of Tales, (New York: Atheneam))؛ أونج، والتر ج. Walter J. Ong، (فبراير 1994)، الشفاهيَّة والكتابيَّة، ترجمة: حسن البنا عزّ الدِّين، مراجعة: محمَّد عصفور (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب).
(4) ولعلَّ من هذا ما حدثَ في عهد المَلِك (يُوشِيَّا بن آمون)، ملك يهوذا، الذي حكم حوالَي 638ق.م، من زعْم (حِلْقِيَّا)، الكاهن الأكبر، أنه قد وجد فجأةً سِفر الشَّريعة في بيت الرَّب. (انظر: سِفر الملوك الثاني، 22).
(5) انظر: سِفر الخُروج، 32: 19. (6) م.ن، 15- 16. (7) م.ن، 24: 12. (8) م.ن، 31: 18.
** ** **
(عضو مجلس الشورى - الأستاذ بجامعة الملك سعود)