أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
إنما سُمِّي (بيت المَقْدِس) بـ»المسجد الأقصَى» لأنه كان إبّان البعثة النبويَّة أقصَى مسجدٍ عن المسجد الحرام صلَّى فيه النبيّ. ولا معنى لإطلاق هذه التسمية في العصر الأموي - كما يزعم مؤلِّف «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود» - والمساجد قد أصبحت في بقاع الأرض المختلفة، وصار كثيرٌ منها أقصَى من الأقصَى شَمالًا، وفي كل اتِّجاه من المعمورة. وهو كذلك أقصَى بيتٍ من بيوت الله يُزار وتُبتغى في زيارته الفضيلة، بعد المسجد الحرام، والمسجد النبوي.(1)
وقد كانت (سورة الإسراء)، لأجل علاقتها ببني إسرائيل وتاريخهم، تُسمَّى «سورة بني إسرائيل»(2). وسياق «سورة بني إسرائيل» وحديثها المستفيض عن بني إسرائيل وأنبيائهم من القرائن الإضافيَّة على أن مكان الإسراء هو بيت المَقْدِس. اللهم إلّا لدى من يعتقد أن تاريخ بني إسرائيل كان في مكان آخر، كـ(الدكتور أحمد داوود)!
وقد فُسِّرتْ الآية السابعة من «سورة بني إسرائيل - الإسراء»: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ليَسُوْؤُوا وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}، على أن المسجد في الآية هو (المسجد الأقصَى)، وأن السورة، وإنْ لم تذكر (فلسطين) صراحةً، تُحيل إلى الأحداث التاريخيَّة التي وقعت في فلسطين، وإنْ اختلف المفسِّرون حول تاريخ إفساد بني إسرائيل مرَّتين، وما لحق بهم، عقابًا على ذلك، من تدمير، بين قائل بأن في الآيات إشارات إلى ما سلّطه الله على بني إسرائيل من البطل الفلسطيني (جالوت)، أو من الإمبراطور الآشوري (سنحاريب، 705- 681ق.م)، في المرَّة الأُولى، وقائل بأن الآية إشارة إلى قضاء (نَبُوخَذْناصَّر) على (أورشليم) ومملكتها عام 586ق.م، وسَبْي بني إسرائيل إلى (بابل).(3) لكنّ أحدًا، للأسف، لم يتفطّن قبل صاحب «العرب والساميّون...» إلى أن المسجد الأقصَى الذي بارك الله حول، وما أحاط به من تاريخ، يقع في مكان ما من (سَراة غامد)، لا في (فلسطين)، وأن الآية {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} إشارة إلى مسجدٍ ما في سَراة غامد، لا يعرفه أحدٌ على الإطلاق، ولا حكايته التاريخيَّة!
من أجل ذلك طفق (داوود) تأويلًا لآيات «القرآن المجيد»، لكي يتماشَى مع ما بيّته سلفًا من نقل فلسطين وتاريخ بني إسرائيل إلى مكانٍ آخر؛ فالنصّ لا يستقيم مع كلّ تلك المزاعم الغريبة دون إعمال تأوّلٍ متعسّفٍ متكلّفٍ قَصِيٍّ، يضرب عُرض الحائط باللغة بعد التاريخ. مستدِلًّا على زعمه بدليلٍ في غاية الطرافة حقًّا. وهو أن «أَسْرَى» في آية الإسراء هي بمعنى «ذهب إلى السَّراة»؛ لأن النصّ القرآني قال: «أَسْرَى ليلًا»، ولو كان «أَسْرَى» بمعنى السير ليلًا لكانت كلمة «ليلًا» في الآية زائدةً وحشوًا.(4) ومسألة الزيادات والحشو تلك مسألة بلاغيَّة لا يفقهها مَن لا يفقه البلاغة، على كلّ حال. ولكن لنَعرض على صاحبنا آيات أخرى فيها حشو، قياسًا إلى كلامه، كما في (سورة طه، الآيات 17- 19):
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ، يَا مُوسَى؟ قَالَ: هِيَ عَصَايَ، أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي، وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قَالَ: أَلْقِهَا، يَا مُوسَى.}
أفلم يكن الله يعلم ما تلك بيمين موسى؟! فلِمَ سأله؟!
وهذا الأسلوب نجده في «التوراة»(5) أيضًا: «فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «مَا هذِهِ فِي يَدِكَ؟» فَقَالَ: «عَصًا». فَقَالَ: «اطْرَحْهَا إِلَى الأَرْضِ».
ثمَّ لِـمَ يظلّ يناديه: «يا موسى».. «يا موسى»، وليس معهم ثالث؟!
ولِـمَ قال في (سورة النحل، الآية 51): {وَقَالَ اللَّـهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَاهَيْنِ اثْنَيْنِ؛ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ، فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أما كان في الإمكان القول: «وَقَالَ اللَّـهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَاهَيْنِ؛ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ، فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ»، لولا مراعاة أساليب من التأثير البلاغي تتخطَّى في وظيفتها مجرد إيصال الفكرة الذهنيَّة الباردة؟!
هذه واحدة، لعلّها تكفي في ما يتعلّق بأساليب قد يظنّها الساذج في معرفته بالأساليب حشوًا، وهي لدى العارفين، من عرب وعجم، أساليب بلاغيَّة مقصودة. أمّا زعمه أن العرب لا تقول «سَرَى ليلًا»، و»أَسْرَى ليلًا»، فزعم باطل. بل العرب تقول ذلك كثيرًا، ولا تَعُدُّ ذِكْـرَ «الليل» حشوًا. يقول (المرقِّش الأكبر)(6)، مثلًا:
سَرَى لَيْلًا خَيالٌ مِنْ سُلَيْمى
فأَرَّقَني وأصْحابي هُجُودُ
وتقول (أُمُّ ناشب الحارثية)(7):
لحا الله قومًا جشَّموا أُمَّ ناشبٍ
سُرَى الليلِ تغشاهُ بغيرِ دليلِ
ومن شواهد اللغويِّين:
سَرَى مُتَوَكِّفًا عن آل سُعْدَى
ولَوْ أَسْرَى بلَيْلٍ قاطِـنِـينَـا(8)
وكذا قول (مُلَيْح بن الحَكَم الهذلي)(9):
وخَفُّوا فأَمَّا الجامِلُ الجَوْنُ فاسْترَى
بلَيلٍ، وأَمَّا الحَيُّ بَعْدُ، فأَصْبَحُوا
على أن (داوود) قد غفل عن أن «القرآن» نفسه استعمل «أَسْرَى ليلًا» في غير سورة الإسراء وغير نبإ الإسراء والمعراج. من ذلك مثلًا في (سورة الدخان، الآية 23)، قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}. فلِمَ لَم يكتف هنا بالقول: «فَأَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ»، ما دامت كلمة «ليلًا» زائدة لفظيَّة وحشوًا بلا معنى، حسب اكتشافات داوود البلاغيَّة - التاريخيَّة؟! وفي (سورة هود، الآية 81): «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ». وكذا في (سورة الحجر، الآية65). أم لعلّ الإسراء في كلّ هذه الآيات إنما يعني الاتّجاه إلى جبال السَّروات؟! فكلّما حزَب أمرٌ، أمرَ الله الأنبياء بالاتجاه إلى سَراة غامد وضواحيها! في حين لم يستعمل «ليلًا» في (الآية 77، من سورة طه): {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى: أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا، لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}، ولا في (الآية 52، من سورة الشعراء): {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى: أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}. ما يعني أنه خيارٌ أسلوبيٌّ، لوظيفة بيانيَّة بحسب السياق، فلا حشو هناك، ولا علاقة لجبال السَّراة بالموضوع على الإطلاق.
بل لقد عبَّر القرآن عن سِراية الليل نفسه في الليل، في قوله تعالى، مُقسِمًا: {واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}. (سورة الفَجْر، 4). وقيل معناه: الليل الذي يُسرَى فيه.
وليس ما تعلَّق به داوود باكتشافٍ لم يلتفت إليه الأسلوبيّون العرب قبل مئات السنين. فلقد ذكروا أنه إنما قال: «سبحان الذي أَسْرَى بعبدهِ ليلًا»، وإنْ كان السُّرَى لا يكون إلّا بالليل، للتأكيد، كقولهم: سِرْت أَمسِ نهارًا، والبارِحةَ ليلًا.(10) وهو تأكيدٌ لكيلا يتوهَّم متوهِّمٌ - كداوود - أن «أسْرَى» بمعنى: صار إلى جبال السَّرَوات. لكن داوود - مع الأسف - لم يُفِده ذلك التنبيه القديم جدًّا، فظلّ يُصِرّ على نفي التأكيد، ليزعم أنه بمعنى صار إلى سَراة غامد. وقد قيل أيضًا إن «أَسْرَى» بمعنى: «سَيَّر». وحتى مَن أغرب في تفسيره: فقال إن «أَسْرَى» من «السَّراة»، إنما قال إن السَّراة أرضٌ واسعةٌ، وإن المعنى: «ذهبَ به في سَراة من الأرض، وسَراة كلّ شيء أعلاه». (11) ومعنى السَّراة - بحسب هذا التأويل - يحتمل ارتفاع المكان تضاريسيًّا أو رِفعته قداسةً. ولم يخطر ذلك الشطح القَصِيّ في «أَسْرَى» - بمعنى صار إلى جبال السَّراة تحديدًا، وأن المسجد الأقصى كان في سَراة غامد - على قلب بشر، قبل داوود، الذي يقول، في عقيدة راسخة رسوخ السَّراة: «ونحن هنا (لا نشكّ لحظةً) في أن هذا هو المعنى المقصود بالكلمة»! (12) يجزم بهذا، لا لأنه ذلك اللغوي والمفسِّر النحرير، ولكن لأن جَعْلَ السَّراة الأرضَ المقدَّسةَ أمرٌ قد بَيَّتَ له و«أَسْرَى عليه بِلَيْل» (13)، شاء مَن شاء وأَبَى مَن أَبَى، ما دفعه إلى هذا التكلّف العجيب.
ومن هنا يبدو أنه قد جانبَ المسلمين الفهمُ، منذ عرفوا القرآن، حتى في تسمية السورة نفسها: «سورة الإسراء»، وكان يمكن أن يسمّوها، إذن، «سورة السَّراة»، نسبة إلى (سَراة غامد)! وجانب المحدِّثين والرواة المعنى، إذ كانوا يُطلقون على حديث الإسراء: «حديث الإسراء» تارة و«حديث المَسْرَى» (14) تارة أخرى، وكان حقّهم، لو أدركوا أن «أَسْرَى» في الآية إنما تعني قصدَ (سَراة غامد)، أن يسموه «حديث السَّراة»!
إنه تراث من الجهل اللغوي والتاريخي، لم يستضئ إلَّا على يد المؤرِّخ المعاصر!
** ** **
(1) انظر: الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 14: 420.
(2) بهذا عَنْوَن (الطبري) تفسيره هذه السورة: «تفسير سورة بني إسرائيل».
(3) حول هذا يمكن الرجوع، مثلًا، إلى ما سيق في تفسير السورة لدى (الطبري).
(4) انظر: داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 251.
(5) سِفر الخروج، 4: 2- 3.
(6) (1998)، ديوان المُرَقِّشَين، تحقيق: كارين صادر (بيروت: دار صادر)، 51/ 1.
(7) ابن طيفور، أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر، (1908)، بلاغات النساء وطرائف كلامهن ومُلَح نوادرهن، عناية: أحمد الألفي (القاهرة: مدرسة والدة عباس الأوّل)، 105.
(8) انظر: الصاغاني، العُباب الزاخر، (وكف).
(9) السكّري، أبو سعيد، (1965)، شرح أشعار الهُذليِّين، تحقيق: عبد الستار أحمد فرّاج، مراجعة: محمود محمَّد شاكر (القاهرة: دار العروبة)، 3: 1037/ 6/ 2.
(10) انظر: الجوهري، الصِّحاح، (سرى)، وابن منظور، لسان العرب، (سرا).
(11) انظر: الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، (سرى).
(12) انظر: داوود، 251.
(13) تقول العرب: «هذا أمرٌ أُسْرِيَ عليه بِلَيْل»، يُضرب مَثَلًا لما احتيل في طلبه. وهذا دليل إضافي على بُطلان الزعم أن العرب لا تقول: «سَرَى ليلًا»، و»أَسْرَى ليلًا»!
(14) انظر: الطبري، م.ن، 14: 416، (سورة الإسراء - بني إسرائيل).